مدونات ضد المحاكمات : الحرية لمدحت الحداد | الحرية لعصام حشيش | الحرية للدكتور بشر | الحرية لضياء فرحات | الحرية لخيرت الشاطر | الحرية لحسن مالك


الكثير يمكن أن يقال عن المواجهات بين الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، وبين الحركات الإسلامية المعتدلة، خاصة حركة الإخوان المسلمين، ولكن البحث عن أسباب المواجهة يجعلنا نبحث عن جوهر تلك المواجهة، والذي يتمثل في المقابلة بين مشروعين، مشروع النخبة المسيطرة على الحكم، والتي تريد البقاء في الحكم، ومشروع حركات التغيير، والتي تريد بناء واقع جديد ونظام سياسي جديد، فهذا هو جوهر القضية.

فحركة الإخوان المسلمين تعمل من أجل إقامة تصورها عن الدولة والنظام السياسي، وتؤسس رؤيتها الحضارية والدينية للأمة. وتلك الرؤية لها أرضية حقيقية وتأييد جماهيري، والأهم من ذلك، أن تلك الرؤية والتي تمثل الوسطية الإسلامية، موجودة قبل الإخوان وبعدهم، وموجودة داخل الإخوان وخارجهم، وحركة الإخوان تمثل واحدة من الاجتهادات المهمة للرؤية الحضارية الإسلامية الوسطية. نعني بهذا أننا بصدد مشروع يقوم على تأسيس المجتمع والسياسة على أساس الانتماء الحضاري والديني، وهذا المشروع هو في الواقع مشروع الأمة وخيارها الجماهيري، وحركة الإخوان تقدم رؤيتها لهذا المشروع، كما تقدم تنظيما مكلفا بتنفيذ المشروع. وهنا نصل لجوهر مسألة المواجهة بين النظام وحركة الإخوان، فالفكر الذي تحمله الحركة يهدف لتغيير الأمة، والتنظيم الذي يقدم الفكرة يقوم بدوره الواضح في عملية التغيير.

ومن هنا نفهم لماذا تحدث المواجهة، لأن السبب لا يتعلق بالدخول في الانتخابات التشريعية من قبل جماعة الإخوان من عدمه، ولكن يتعلق بالمشروع نفسه، لأنه مشروع تغيير. والأنظمة العربية الحاكمة لا تريد حدوث تغيير في المجتمع أو السياسة يأتي من خارجها، وهي لا تريد إحداث أي تغيير في السياسة أساسا، لأن التغيير يتطلب تغيير النخب الحاكمة، والغالب على هذه النخب أنها لا تريد تغيير خيارها السياسي، ولا تريد تجديد نفسها أو تحويل تصوراتها السياسية إلى أي وجهة جديدة. ومعنى هذا أننا بصدد نخب لا تريد إحداث أي تغيير في الواقع السياسي أو الاجتماعي، ولذلك فهي ترفض أي نوع من الحراك السياسي أو حتى الاجتماعي، لأن الحراك يعني التغيير. ولأن النخبة السياسية تحاول الحفاظ فقط على بقائها، فهي لا تريد فتح باب الحراك لأنها لا تملك ما تقوم به في هذه الحالة. ولأن النخب الحاكمة لا تريد حتى الدخول في مرحلة انتقالية يعيد فيها كل طرف سياسي حساباته ويراجع أفكاره ومواقفه، لذلك فإن النخب الحاكمة تريد فقط ما تعرفه بأنه الاستقرار، وهو في الواقع ليس إلا الجمود.

تلك هي المشكلة الحقيقية التي تفسر لنا المواجهة المستمرة بين الأنظمة الحاكمة وحركة الإخوان المسلمين. فالنخب التي تريد الحفاظ على الأوضاع القائمة كما هي، ترفض بالتالي أي حركة اجتماعية أو سياسية يكون الهدف منها التغيير. ولذلك نجد أن الصدام بين الأنظمة الحاكمة وحركة الإخوان المسلمين في البلاد العربية المختلفة يختلف في الشدة والحدة، بسبب الاختلاف بين الأنظمة في مدى قابليتها لتحمل قدر من الحراك الاجتماعي والسياسي. ولهذا تمثل مصر ذروة الصدام بين النخبة الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين، لأن النظام المصري من أكثر الأنظمة التي تريد الحفاظ على درجة من الاستقرار، تمثل في الواقع الجمود الكامل، لأن النظام المصري وصل لمرحلة لم يعد قادرا فيها على العمل في مناخ سياسي به أي قدر من الفاعلية أو الحركية، لأن النظام نفسه غير قادر على تغيير نفسه.

لذلك نجد أن النظام عندما أراد تغيير صورته دون جوهره، وفي ظل مناخ دولي ضاغط عليه في عام 2005، فتح بابا صغيرا للحراك السياسي النسبي والمرحلي، حتى يستطيع تغيير بعضا من ملامحه. وكان هذا التغيير من خلال تعديل الدستور والقوانين، لتسمح للنظام بالسيطرة على العملية السياسية وعلى المعارضة وعلى الأحزاب، بالصورة التي تمكن النظام من البقاء في السلطة، مستندا لبنود في الدستور والقوانين المنظمة للحياة السياسية، تبرر الكثير من الإجراءات المستبدة، ومنها المحاكم الاستثنائية وعلى رأسها المحاكم العسكرية.

أي أن هدف النظام الوحيد من تغيير صورته، هو جعل بعض الممارسات الاستثنائية ذات غطاء من الدستور والقانون. ولكن بسبب وجود حدود لما يمكن أن يكتب في أي دستور، نجد النظام وضع بنودا سيئة، ثم طبقها بصورة تختلف عن جوهرها. فالمادة المستحدثة في الدستور، والخاصة بحق رئيس الجمهورية في تحويل جرائم الإرهاب إلى أي محكمة مشكلة بقانون، لا يسمح له إلا بتحويل قضايا العنف والإرهاب، ولكن المادة تستخدم لتحويل القضايا السياسية للمحاكم العسكرية. وبعد انتهاء النظام السياسي من هذا التغيير الشكلي، الذي لم يغير صورته ولا حسنها، أتجه النظام مباشرة لغلق باب الحراك السياسي وترويض المجتمع السياسي المصري من جديد حتى يعود للوضع السياسي الجامد، والسابق لتلك الحالة من الحراك السياسي النسبي والمؤقت. وهنا بدأ النظام في ضرب حركة القضاة وتحويل الصحفيين للمحاكم، وقام بعملية منظمة لضرب وحصار جماعة الإخوان المسلمين، والتي ثبت في مرحلة الحراك أنها القوى المعارضة الأقوى، وظهر أيضا أنها تملك مشروعا قادرا على التعبير عن شريحة واسعة من المجتمع المصري.

بهذا تمثل المحاكم العسكرية ذروة الإجراءات الاستثنائية التي يلجأ لها النظام، لضرب حركة تغيير مهمة ومؤثرة، وهي جماعة الإخوان المسلمين.

ولكن هدف النظام من تلك المحاكمات لن يتحقق، لأن حركات التغيير تعتمد على مصداقيتها لدى الناس، وتعتمد على مدى قبول فكرتها بين الناس. فحركات التغيير تعتمد على عقل الأمة، والمحاكم العسكرية لا تشكل عقل الأمة. لذلك تبقى حركة الإخوان، بقدر قدرتها على التأثير على عقل الأمة، وقدرتها على تغيير الأمة. ومن تنحاز له الأمة، هو الذي ينتصر في النهاية، وليس من يملك القوة الغاشمة، فالقوة لا تكسب النظام أنصارا، بل تكسبه المزيد من الأعداء، وصمود جماعة الإخوان واستمرارها في دورها كحركة تغيير، يكسبها الأنصار. لهذا فمن يملك إصدار الحكم في المحاكمات العسكرية هو الخاسر، ومن يحكم عليه هو الفائز.

0 التعليقات :

أضف تعليقك