مدونات ضد المحاكمات : الحرية لمدحت الحداد | الحرية لعصام حشيش | الحرية للدكتور بشر | الحرية لضياء فرحات | الحرية لخيرت الشاطر | الحرية لحسن مالك





خالد عودة.. نجل الشهيد

كنتُ أسمع عنه كثيرًا فقد خاض الانتخابات التشريعية لعام 2000م، وكنتُ قد خضتها أيضًا معه في محافظتي، وكان موقفنا واحدًا، فقد دخل هو الإعادة، وكذلك دخلتُ أنا إياها، ولكن تكتلت الدولة ضده حتى أسقطته كما حدث معي تمامًا؛ ونظرًا لأنني عملتُ مدرسًا بكلية الطب جامعة الأزهر فرع أسيوط، وهو من مواطني أسيوط فقد سمعتُ الكثير عن سمعته الطيبة من عموم الناس، فضلاً عن خواصهم، وقد تمنيتُ أن أجالسه، ولكن لم تتح لي الفرصة حتى أراد الله أن نلتقي سويًّا في سجن مزرعة طرة؛ حيث أُحلنا سويًّا إلى المحكمة العسكرية.

إنه الأستاذ الدكتور خالد عبد القادر عودة، ابن الشهيد عبد القادر عودة الذي أعدمه جمال عبد الناصر ظُلمًا عام 1954م، وترك ثمانية أبناء، وكان ترتيب دكتور خالد الثاني، وكان عمره آنذاك عشر سنوات فقط، وكانت أمه تلك المرأة العظيمة عمرها 35 سنةً، تركها الشهيد لتتحمل مسئولية ثمانية أبناء استشهد والدهم بعد أن استقال من القضاء ليتفرغ لعمله الدعوي كوكيل لجماعة الإخوان المسلمين، وكقائم بأعمال المرشد العام في بعض الأوقات، وقد كان محاميًا بارعًا بعد أن استقال من القضاء في بعض الأوقات.

ويروي لنا دكتور خالد كيف أن الله رعاهم رغم ضيق الحياة وشظفها، حتى تخرجوا كلهم قي كلياتهم، ففتح الله عليهم بعد ذلك، فأصبحوا جميعهم ذوي مناصب مرموقة وأحوال مادية متيسرة ومكانة اجتماعية راقية، وهذا كله ببركة شهادة أبيه في سبيل الله ودعواته لهم.

وقد قص علينا دكتور خالد عن أبيه كثيرًا من المواقف التي تنمُّ عن شجاعة هذا الرجل، وقوة شخصيته حتى إنه استكمل كتابه المشهور (التشريع الجنائي في الإسلام) في ليلة إعدامه، وقبل إعدامه بساعات قليلة قال لزوجته وأبنائه: "إنني سأقتل لأن الله أراد ذلك".

وقد بعث إليه عبد الناصر قبل القبض عليه ليساومه حتى يلين موقفه منه، ولكنه ردَّ على الوسيط قائلاً: "قل لعبد الناصر قد علمت ما عندك، وما عند الله خيرٌ وأبقى"، رحم الله الشهيد رحمةً واسعةً.

وقد اجتمعت في الدكتور خالد مواهب وقدرات قلما تجتمع في فردٍ واحد، فهو عالم قدير في تخصصه، وهو الجيولوجيا، كما أنه باحث شرعي له أبحاث تتعلق بنظام الدولة في ظل الإسلام، كما أنه رجل صناعة أنشأ العديد من المصانع في أسيوط.

ففي علم الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) يُعتبر دكتور خالد أحد العلماء العالميين؛ حيث هو عضو النادي الجيولوجي الدولي، وقد اكتشف في مصر مكانًا يُجيب على تساؤلاتٍ عديدةٍ في علم الجيولوجيا؛ وذلك في منطقة الدبابية ناحية الأقصر، وقد أعلنت هذه المنطقة محمية أثرية عالمية، وقد جاء الفريق الدولي ليدشن هذا الموقع، وكان اجتماعه المحدد في نفس يوم اعتقال دكتور خالد، وقد انصرف الوفد الدولي من مصر مندهشًا من هذا الإجراء ومستاءً مما يحدث للعلماء في هذا البلد، وأرسلت رئيسة الوفد خطابًا للمسئولين في مصر تستنكر ما يُفعل بعِالم في درجة دكتور خالد، وفي مكانته كرئيسٍ للفريق الجيولوجي المصري.

وبِرًّا بأبيه فقد استكمل دكتور خالد رسالة أبيه التي بدأها بكتابه (التشريع الجنائي في الإسلام)، فأكمل دكتور خالد كتابين أحدهما (التشريع المالي في الإسلام)، والثاني (المشروع في السياسة والحكم وإصلاح المؤسسات الدستورية)، وقد اعتمد فيها على مراجع عديدة، ولكن مؤلفات الشهيد عبد القادر عودة كانت تُمثل حجر الزاوية في استدلالاته.

ورغم أن دكتور خالد من مواليد الدقهلية إلا أنه عمل بأسيوط أستاذًا بكلية العلوم، جعله يشعر بأهلها، وحالة الفقر التي يعيشها الناس، فأنشأ عدة مصانع لتشغيل الشباب؛ حيث أنشأ مصنعًا للأخشاب، وآخر للملابس وثالثًا للبلاستيك، وغيرها.

ولعل من أهم الجوانب الإنسانية التي لمستُها في شخصية دكتور خالد هي رقة طبعه، أذكر يومًا كنا في المحكمة، وأُصيب دكتور عبد الرحمن سعودي- وهو زميله في القضية وجاره في الزنزانة- بتعبٍ مفاجئ وشغلنا كلنا عليه، وحانت مني التفاتة فوجدت دكتور خالد قد انتحى جانبًا، وأخذ يبكي أخاه في الله خوفًا عليه ويدعو له.

ومن اللطف أنه بعد تناول الطعام، وأحيانًا قبل تناوله يقوم دكتور خالد بتجهيز طعام للقطط التي تجيء للعنبر التماسًا للطعام، فيشملها بعطفه ورعايته.

والدكتور خالد غاية في التواضع يستحي أن يطلب من أحدٍ أي شيء حتى ولو كان بسيطًا، كأن يناوله أحد كوب ماء مثلاً، وحين نتناقش في أي أمرٍ من الأمور تجده يبدي رأيه معتزًا به، ولكنه في نفس الوقت تراه أنه من الممكن أن يتنازل عن رأيه ويقتنع برأي أصغر الموجودين إذا وجد فيه الخير والصواب، رغم أنه يعتبر ثاني الأفراد من حيث كبر السن (64) عامًا.

والذي لا يتخيله أحد في شخصية دكتور خالد هو أنه شخصية مرحة للغاية، فهو كثير النكات، ويحسن إلقاءها ليدخل السرور على إخوانه، وكثيرًا ما ينادي على أحدنا سائلاً إياه "هل سمعت آخر نكتة؟"، وهو يقصد بذلك أن يُروِّح عن إخوانه، ويُذهب عنهم أثر الظلم الجاثم على صدورهم، ودكتور خالد إذا رأيته بهندامه المنظم، وقامته الممشوقة يدخل إلى قلبك المهابة والاحترام، فإذا عاشرته أدخل إلى قلبك الحب والوئام.

إن هذه الصفات المجتمعة للدكتور خالد من تميزه العلمي وخدمته للناس، وروحه المرحة هي التي دفعت أستاذًا جامعيًّا قبطيًّا أن يأتي من أسيوط إلى القاهرة مرتين متتاليتين ليشهد أن دكتور خالد هو مثال للعالم، والأستاذ الجامعي والمواطن المصري الذي يعمل لوطنه، ولدينه وأمته؛ وذلك فضلاً عن شهود آخرين جاءوا ليقولوا إن الدكتور خالد لا يعرفنا شخصيًّا، ولكننا نعرفه من محاضراته، وأبحاثه وعلومه، ويستأذن بعضهم من القاضي أن يسلموا على دكتور خالد، وهو بداخل القفص الحديدي في قاعة المحكمة، وهو قفص لا يصلح لسكنى القرود لا أن يُوضع فيه أحد علماء مصر.

ترى لو أن دكتور خالد كان في بلد آخر وفعل لها ما فعل من اكتشافات أثرية، وأبحاث علمية وأنشطة اجتماعية وخدمات للمجتمع.. هل سيكون مكانه السجن؟! بالطبع لا، بل سيكون على رأس المكرمين، ولكن لأننا في ظل نظامٍ مستبدٍ فإنَّ مَن يسرقون الآثار يعيشون أحرارًا، ومَن يمارسون الإصلاح في بلدهم يحالون إلى محاكمةٍ عسكرية.

ولكننا لم ولن نفقد الأمل في أنه سيأتي اليوم الذي يسهم فيه دكتور خالد، وأمثاله من علماء مصر في الداخل والخارج، في نهضتها حتى تتبوأ مكانتها اللائقة بها؛ لأن مصر كما يحكي دكتور خالد تملك موارد مادية وبشرية هائلة تُمكنها من التقدم والنمو في ظلِّ مناخٍ تتحقق فيه الحرية والعدالة، وينتهي فيه الفساد والاستبداد.


0 التعليقات :

أضف تعليقك