مدونات ضد المحاكمات : الحرية لمدحت الحداد | الحرية لعصام حشيش | الحرية للدكتور بشر | الحرية لضياء فرحات | الحرية لخيرت الشاطر | الحرية لحسن مالك


الفرق الجوهري بين المجتمع المتحضر ومجتمع الغاب، ليس فقط في العصر الحديث، بل علي مر العصور، هو أن المواطن الصالح المسالم في الأول يكون آمناً علي نفسه. وإذا واجه تهديداً فإن هذا التهديد يأتي من عناصر مجرمة مارقة تحاربها الدولة وينبذها المجتمع.

أما إذا كان المواطن فوق ذلك مشهوداً له بالاستقامة واحترام القيم العليا، فإنه لا يكون آمناً فقط، بل يكون موقع الاحترام والتجلة والتقدير. وإذا أضاف إلي الاستقامة الشخصية الإبداع في مجاله المهني، والنشاط في المجال العام سعياً وراء مصلحة الأمة والوطن، فإن الاحترام يزيد ويتضاعف.

في دول مثل بريطانيا، طوعت الحكومة والمجتمع أعرافا وتقاليد قديمة، مثل تقاليد خلع ألقاب اللوردات والفروسية وضابط الامبراطورية وغيرها لتكريم أصحاب المساهمات المتميزة في كل مجالات الحياة العامة: سياسياً ومهنياً وإنسانياً واجتماعياً. عالمياً استحدثت مؤسسات غير حكومية جوائز مثل جائزة نوبل لتكريم المتميزين في المساهمة في خير الإنسانية. وقبل ذلك كانت الأمة الإسلامية منذ العهد النبوي تكرم السباقين إلي الخير، رغم أن النهج الإسلامي يشجع أيضاً علي النأي عن مدح الذات. وهكذا نجد الرسول صلي الله عليه وسلم يخلع علي أصحابه ألقاباً مثل سيد الشهداء، وطلحة الخير، وغسيل الملائكة وذات النطاقين، وغير ذلك من وسائل العرفان لتشجيع الكل علي استباق الخير.

أما حين تنقلب الأمور كما هو الحال اليوم في أرض الكنانة غير المحروسة، ويصبح السعي للخير، والإقبال علي البر، وغشيان المساجد، وإقامة الجمعيات الخيرية، والتصدي للعمل العام، أو قول الحق ( في حالة الصحافة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما يصبح كل هذا جريمة يخشي صاحبها علي نفسه زورا الفجر، فإن أقل ما يقال عن مجتمع كهذا أنه مجتمع يسعي بخطي حثيثة إلي الانتحار. فما نراه اليوم في مصر من اعتقالات بالجملة للمعارضين، وعلي رأسهم ناشطو الإخوان المسلمين وبعض الصحافيين المرموقين لا لسبب سوي نشاطهم السياسي المشروع، وتقديم هؤلاء الناشطين إلي محاكم عسكرية، يعتبر عدواناً علي قيم التحضر في المجتمع قبل أن يكون عدواناً علي الأفراد.

وتزداد الأزمة عمقاً حين لا يقتصر تبادل الأدوار علي قيام المتهمين بنهب أموال الشعب وتزوير إرادته بتنصيب أنفسهم حكماً علي أهل الاستقامة والنزاهة، بحيث يصل الأمر كما حدث الأسبوع الماضي إلي الاعتماد المباشر علي الحثالة من البلطجية ومحترفي الإجرام للاعتداء علي المواطنين المتوجهين لممارسة حقهم وأداء واجبهم في الترشح للعمل العام. وقد وقعت ممارسات إجرامية مماثلة قبل ذلك في الاعتداءات البشعة التي وصلت حد التحرش الجنسي بالمحصنات المؤمنات إبان الاحتجاج المشروع ضد الدكتاتورية وتزوير إرادة الأمة.

إنها علامة خلل كبير في أي مجتمع حين تنقض الشرطة علي منزل طبيب وتقتاده إلي السجن، لا لأنه غش في الدواء، أو ارتكب ممارسات لا أخلاقية أضرت بالمرضي أو تربح علي حساب أخلاق المهنة، بل لأنه بالعكس كان مثالاً للإحسان في العمل. أو حين يهبط زوار الفجر علي منزل أستاذ جامعي أو محام مرموق أو رجل أعمال مشهود له بالنزاهة، أيضاً ليس بسبب غش في امتحانات، أو تزوير عقود، أو تشغيل عبارة أغرقت المئات، أو استيراد أغذية سامة، بل تحديداً لأن أياً منهم لم يشارك في إجرام من هذا النوع، ويصر علي تحدي من يمارسون هذه النوع من الإجرام.

ولو كان مثل هذا الترويع للمواطنين المشهود لهم باحترام القانون يأتي من عصابات الإجرام كما يحدث في العراق أو سيراليون من استهداف الإرهابيين وعصابات الإجرام والخاطفين للعلماء والمحامين ورجال الأعمال سعياً وراء الكسب الحرام، أو تصفية لحسابات أو تنفيذاً لمخططات محلية أو أجنبية، لكان الأمر مفهوماً دون أن يكون معذوراً. فارتكاب أعمال الإجرام هي من طبع المجرمين. ومن أجل التصدي لهذا الإجرام نشأت الدول وسنت القوانين وجرت سنة تأسيس أجهزة الشرطة والأمن وغيرها من أدوات حفظ الأمن. أما حين تتحول أجهزة الأمن والشرطة إلي تعقب المواطنين الصالحين وتترك أهل الإجرام، بل توظفهم للاعتداء علي الأحرار والحرائر في وضح النهار، فماذا بقي مما يفرق بين مؤسسات الدولة وعصابات الإجرام؟

كيف تكون هناك دولة تحترم نفسها لشعب يحترم نفسه تمارس علي رؤوس الأشهاد انتهاك الأعراض؟ ألم يسير المعتصم رحمه الله جيشاً لأن عرض امرأة مسلمة انتهك في خارج نطاق سلطانه. وحتي اليوم فإن السكوت من قبل المسؤول عن انتهاك عرض أو التقصير في ملاحقة مرتكبيه في أي مجتمع متحضر يعتبر جريمة كبري. فكيف إذا كانت الدولة هي التي لا تكتفي بالتستر علي انتهاك الأعراض وممارسة البلطجة ضد المواطنين المسالمين في وضح النهار، بل هي التي تحرك العصابات المجرمة؟ إلي أي درك انحط هذا البلد الذي بزغت منه شمس الحضارة علي العالم فأصبح اليوم كأنه في قبضة التتار؟

وبغض النظر عن التكتيك الإجرامي فإن الاستراتيجية تشير إلي فشل محتوم. فبحسب استراتيجيي النظام المصري، فإن احتواء وضرب حركة الإخوان المسلمين أمر ضروري لأن السماح لهم بالعمل السياسي يعني أنهم سيكتسحون الانتخابات ويستولون علي السلطة.
ولكن الحكومة نفسها لا تني تذكرنا بأن جماعة الإخوان المسلمين محظورة منذ عام 1955. وهذا يعني أن السؤال هو ليس كيف تتحول جماعة محظورة باعتراف الحكومة إلي حركة سياسية تكتسح الشارع، ولكن السؤال هو: أين الجماعات غير المحظورة، بما فيها الحزب الحاكم المستولي علي الإعلام والدولة والمال والتعليم لأكثر من خمسة عقود؟ لماذا عجزوا عن اكتساح الشارع وإقناع الشعب بصلاحيتهم لكي ينتخبوا انتخاباً حراً؟ وإذا كانوا قد عجزوا خلال كل العقود السابقة قبل أن يكونوا متهمين بالفساد وممالأة العدو، فكيف ينجحون الآن؟ وهل الطريق إلي النجاح هو تحويل الدولة إلي تحالف بين كبار المجرمين وصغارهم في نظر الشعب؟

إن ما يحدث يسيء أكثر إلي المعسكر العلماني الذي تزعم الحكومة أنها تمثله، وهو أمر أدركته الغالبية من الناشطين والسياسيين المصريين، كما ظهر في الإجماع الذي تبلور في السنوات الأخيرة وكان من بعض مظاهر نشأة حركة كفاية وظهور ما يشبه الإجماع في الإعلام المعارض ضد السلطة وتوجهاتها. وقد تعدي الأمر ذلك إلي مؤسسات الدولة مثل القضاء الذي اتخذ موقفاً حازماً من تجاوزات السلطة ونأي بنفسه عنها. وتبعت نفس المنهج مؤسسات المجتمع المدني مثل نقابات المحامين والصحافيين والأطباء وغيرها. ويكشف استخدام الحزب الحاكم المتزايد للبلطجية لترويع المعارضين أن الأجهزة الأمنية نفسها أصبحت تستنكف عن القيام بالأعمال القذرة التي يكلفها بها الحزب الحاكم الذي يريد أن يواري عجزه عن كسب ثقة الجماهير (رغم الإجراءات التعسفية وعدم نزاهة أو عدالة العملية الانتخابية) عبر استخدام الشرطة والأمن كبلطجية يعملون لصالح الحزب.

وفي نفس هذا السياق يندرج استخدام القضاء العسكري في محاكمة المعارضين من إخوان مسلمين وصحافيين وغيرهم. فالحزب يريد أن يستغل الوضع الخاص للجيش، وكون الضباط فيه في نهاية الأمر لا بد أن ينفذوا الأوامر التي تأتيهم. من أعلي، حتي يمرر أحكاماً غير قانونية. وفي هذا الإطار فإن التفسير الأصح في نظري للتأجيلات المتكررة لإصدار الأحكام في قضية قيادات الإخوان لا يشير كما تقول المعارضة إلي نية مبيتة لإصدار أحكام جائرة، بل هو العكس، إن الضباط القائمين علي هذه المحاكم يواجهون صراعاً مع ضمائرهم ويرفضون أن يكونوا أدوات في يد الفاسدين. ولعلهم قد أدركوا سلفاً كمن هي إساءة كبيرة للجيش ومقامه أن يستخدم القضاء العسكري كما يستخدم البلطجية ومعتادي الإجرام لتمرير أحكام يستنكف القضاة المدنيون من تمريرها لأنها تنافي الدستور والقانون والعدل والحس السليم.

ولهذا السبب فإننا نرجو ونتوقع أن يرفض القضاء العسكري تنفيذ هذه المهمة القذرة، وأن يكون رفضه هذا بداية تحول في الجيش كمؤسسة لها كرامتها ومكانتها التي لا ينبغي أن تستغل لتصفية حسابات داخلية بين أطراف سياسية متصارعة. فالجيش ليس ميليشيا خاصة تابعة لحزب، ومن مصلحة البلد أن ينأي بنفسه عن مثل هذه الصراعات وأن يحتفظ بمكانته القومية فوقها. ومثلما انحاز القضاء وانحازت النقابات والصحافة غير المسيرة للشعب، فإن علي القضاء العسكري وعلي الجيش أيضاً أن يفعل الشيء نفسه.

النظام الحالي مصمم علي تدمير معارضيه من إخوان وغيرهم بطريقة انتحارية دمرت العملية السياسية في البلاد وحولتها إلي مهزلة، ولكنها قد تدمر البلد بكامله. فكما هو معروف من سيرة الأنظمة التي لم تدرك أن ساعتها حانت (كما حدث في أمثلة لا تحصي) هو أن تمسكها بالسلطة بعد أن انكشف المستور ولم تعد الحيلة تنطلي علي الشعب هو أنها تقود البلاد إلي مراحل مدمرة تأتي علي الأخضر واليابس قبل أن تنهار في نهاية المطاف، وهو انهيار حتمي إذا استمر ما نراه من عجز حكومي وفشل عن كسب ثقة الشعب تتم مداراته باستدعاء الشرطة ثم البلطجية للاعتداء علي من يثق الشعب بهم.

كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

0 التعليقات :

أضف تعليقك