قليلةٌ هي تلك اللحظات التي لا تُنسى في حياة المرء ، وقليلةٌ هي تلك المشاعر التي تختلج النفس البشرية على مر الحياة فتترك بها الأثر والروح والزاد الذين لا تُحْدثهم مئات المواقف والأحداث أو الدروس والخطب الرنانة ،
فمهما سار الفردُ منّا في ركب هذه الدعوة المباركة وآمن بسمو نهجها وقدسية فكرتها وحمل على عاتقه غايتها النفيسة وهدفها الطاهر وقصْدِها العظيم وعزَم عزْم الصادقين على العيش في سبيلها أو الموت دونها ورأى في رحابها ومن خلال معتركاتها أرفع وأنقى وأسمى معاني التضحيةِ والبذلِ والتجرد والعطاء ؛ ومهما تحقق كلُّ ذلك بواقعٍ مُعاش وفِعلٍ ملموسٍ لا بكلامٍ تنظيريٍّ أجوف ، إلا أن هناك لحظاتٍ فارقةٍ قد تأتي للمرء فيشعر معها أن جُلَّ ما آمن به لا يزال يحتاج منه إلى غرس المزيد من الثبات واليقين والربانية ، وذلك يتأتَّى عندما يرى الفرد فينا بأُم عينيْهِ أمثلةٍ عملاقةٍ تجسد في شموخ كلَّ هذه القيم النيرة : بالفعل لا بالقول وبالتضحية لا بالتنظير ،،، وإحدى هذه اللحظات الفاصلة هي ما عشتُها وإستشعرتُها اليوم وأنا في … "طُرة" ،،
من الوارد أو من المؤكد أن ما هزني اليوم وأسكب منِّي العَبَرات بعد زيارتي لإخواني وأعمامي وأساتذتي من معتقلي الإخوان المسلمين في سجن مزرعة طُرة ، من الوارد أن يكون ذلك أمراً مألوفاً أو عاديَّاً أو مُعتاداً لإخواني من أهالي المُعتقلين وقد لا يجدوا في كلامي هذا ما يدعوا للسرد أو الدهشة أو التأثر ، ولا أتعجب من ذلك فَمِن شِيَم العظماء أنهم لا يشعرون بمنزلتهم ومكانتهم وإنما يستشعرها ويتأثر ويقتدي بها مَن حولهم ،، بَيْد أنَّ ما أصاب قلبي اليوم كان بحقٍّ فوق التصور ولا يزال يخفق بوجداني وكياني كله وكأنها بالفعل لحظةُ تحولٍ نحو الكثير ... ،
مِن قَدَرِ الله عز وجل أنْ كان معظم أخيار الإخوان المسلمين الذين تم أسرهم في القضايا الأخيرة على معرفةٍ وتقاربٍ وصلةٍ أخويةٍ بوالدي ، ومنهم منَ كُنتُ على إتصالٍ به –إتصال الإبنِ الصغيرِ مع الأبِ المربِّي- فكنت أتعلم منهم خارج الأسوار في طفولتي ثم شبابي الكثير والكثير من الدروسِ في شتى مناحي الحياة ، دروساً تخلُدُ بالذهن لا تفارقه .. ،
كنت أتعلم من الدكتور عبد الرحمن سعودي –وقد عملت لمدةٍ ليست بالقليلة مهندساً بشركة التنمية العمرانية- ، كنت أتعلم منه كيف يتوافق النجاح الباهر في العمل الحياتيّ مع التميز المُطلق في الصلة بالله ، تعلمت منه العطاءَ والكرمَ والسخاءَ المتواصل بل والمتزايد لكل مَن حوله بالشكل الذي جعلني أشعر بصدق أنه لم يتبقى إلا حَصَى الأرض الذي لم يشكر ويثني على الدكتور عبد الرحمن سعودي ، تعلمت منه التواضع الجم وأُلفة الحديث وسلامة الصدر مع مَن يعرفه ومن لا يعرفه ، وأحسبه رجلاً أحبَّ اللهَ فأحبَّه ، وأحبَّ الناسَ فأحبُّوه ؛
كنت أتعلم من الدكتور ضياء فرحات –المُربي والجار والأخِ الأكبر- ، كنت أتعلم منه نقاء السريرة وحكمة الداعية ودماثة الخُلُق وطِيبِ الكلمة وصدق النُصح والصبر والحلم والثبات الذي لا يتحلى به إلا مثل هذا التقيِّ الخفيِّ الباذل في دعوته مهما اشتدت المحن والبار بأهله وإخوانه مهما توالت الكروب ،
ووالذي نفسي بيده لو كنا نكتب عن مآثر ومواقف كل أخٍ في هذه الزمرة الطيبة الرهينة لأسوار الظلم ، لسطَّرنا في ذلك كُتُباً ولكن لا يتسع المقام هنا لأسرد وأتحدث كيف تأثرْتُ بربانية المهندس خيرت الشاطر أو جهاد المهندس أحمد شوشة أو روح الدكتور عصام عبد المحسن أو تجرد الأستاذ صادق الشرقاوي أو جَلَد الدكتور عصام حشيش أو لِين الأستاذ أحمد أشرف ... وغيرِهمُ الكثير ممن أرشدونا إلى خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان ، بالعمل والسلوك قبل الكلام والوعظ .
لذلك ولغير ذلك كنت أشعر بالحرج الشديد وأنا في طريقي صباح اليوم نحوَهم لاسيما وأنها المرة الأولى منذ إعتقالهم التي سأقابلهم فيها عن قُربٍ ووجهاً لوجه دون دروعٍٍ بشريةٍ أو حواجزَ وقضبان ، وبدَرَ إلى مخيلتي أني قد ألقى وجوهاً غير الوجوه وأسمعُ كلماتٍ غير الكلمات ، فليس من السهولة بمكان أن يتصورُ الإنسانُ رجالاً سَعَوا جاهدين لإصلاحِ بلادهم وعمِلوا مخلصين لدينهم وإحترَمَهم كلُّ من تعامل معهم ثم يُزج بهم ظُلماً وقسراً في السجون والمعتقلات ، ثم يكونون بنفس رسوخهم وثباتهم على مبادئهم وفكرتهم لم يحيدوا عنها قدر أُنملة !
لكنَّ هذا ما رأيتُه !!
فهم رجالٌ غير الرجال ، أخيارٌ أطهارٌ في زمنٍ حورِب فيه الخير والطهارة ، أبرارٌ أحرارٌ في زمنٍ ضُيِّق فيه على كافة معاني البر والحرية ، توالت المِحن عليهم فما وهنوا ، وزادت الضغوط فما رضخوا ، واشتد البلاء فما يئسوا ، لم يثنيهمُ البطشُ عن المضيِّ في طريقهم ولم ينسيهم الظلمُ حب أهلهم وبلادهم ، ولم يَفُتَّ في عضدهم سلبُ حرياتهم ونهبُ أموالهم وغمط أبسط حقوقهم ، إنْ عملوا لدنياهم تفوقوا وتميزوا ، فإنْ تعارضت مع آخرتهم هانت عليهم الدنيا بكامل زينتها وزخارفها وإشتروا بها ما هو خيرٌ وأبقى
"أولئك إخواني فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ"
لحظاتٌ سريعةٌ مرت وأنا أسلم وأصافح وأحتضن وأطمئن على آبائي وأساتذتي الأسرى في "طُرة" تتخطفني خلالها كل تلك الخواطر ، ولا غرو ، فلم أكن أتوقع أن يُفعل بإنسانٍ كل ما فُعل ويظل يحتفظ برحابة صدره وحرصه على دعوته وإبتسامته الهادئة وتعلو وجهه المطمئن علامات الرضا واليقين اللذيْن كانا العامل المشترك بين الجميع ،،
فلم أجد تغيراً في بسمة د\ضياء فرحات وسكون م\أحمد شوشة وتواضع د\عبد الرحمن سعودي واحتفاء د\عصام عبد المحسن وعِزة م\خيرت الشاطر وقوة أ\فتحي البغدادي وسُكون أ\صادق الشرقاوي ووَقار د\عصام حشيش وتلقائية م\ممدوح الحسيني وخفة ظل أ\سيد معروف ، فكانت كلمات وتعبيرات الجميع مُفعمة بالرضا بقضاء الله دون أي سمةٍ لتذمرٍ أو ضيقٍ أو تراجع مما قد يظنه نظرياً أيُّ إنسانٍ لم يذق حلاوة البذل لهذا الدين ،
وليس هذا فحسب بل من حسن حظي أن كان اليوم موافقاً ليوم ميلاد الدكتور عصام حشيش الذي أتم فيه عامه الخامس والـ.....عشرين وذلك كما أعلن ضاحكاً د\عصام عبد المحسن الذي أضفى على إخوانه المعتقلين وأسرهم جواً من البهجةحيث تم توزيع مختلف أنواع الحلوى إجبارياً على الجميع وقمتُ بذلك مع نجليه مصطفى وأحمد
فكان سجن طرة ملتقى للتآلف والحب والإخاء بين الإخوان الذين لو عرف أعداؤهم ما بينهم من عاطفة لنازعوهم عليها بالسلاح ؛
أخيراً وعند خروجي من مكان الزيارة أوقفتني قبضةُ يدٍ حانية أمسكت بمعصمي فإذا به الدكتور عبد الرحمن سعودي يقول لي إنتظر وتعالى ، ثم ذهب بي إلى مكان جلوسه مع أسرته الكريمة التي كانت تزوره وليعطيني قطعة من البيتزا وزجاجة مياه غازية ويقول مبتسماً : "عشان تقول لأبوك إن إحنا ضايفناك" ...
خرجت من طُرة وقد اغرورقت الدموعُ الحبيسةُ في عينيّ والتي لم أستطع وصفها إلى الآن ، أهي الحزن أم التأثر أم العاطفة أم السعادة ... لكني في النهاية لم أتذكر إلا كلمةً واحدة كنت أقرأها في توقيع أحد إخواني عندما كنت متفاعلاً مع المنتديات ، يقول : " كم من السجناء أحرار الروح ** وكم من الأحرار سجناء تفاهاتٍ لا معنى لها " والله غالبٌ على أمره ولو كره المبطلون .
محمد أسامة رسلان
و مؤثرة
قلبت علينا المواجع
ربنا يسامحك
جزاكم الله خيراً
حسبنا الله ونعم الوكيل
هو الجبار املنتقم من الظالمين الناصر لعباده الصالحين
تذكروا إخواني يزول الألم ويبقي الأجر ان شاء الله
ثبتكم الله واعانكم علي طريق الدعوة