الجلسة الثانية للمهزلة العسكرية .. متابعة محمد السيد .. مش هاسكت
( 1 )
الأحد 3/7/2007 م..... التاسعة صباحا ....
كان المشهد كالتالي ... رمال قاحلة ... عميقة ... حارة ... رمال من التي نراها علي حدود الدول ... أو في أعماق الصحاري الشاسعة ... رمال من التي لا تصلح لوجود البشر فيها ... بل لا تصلح لوجد غير البشر كذلك ...
في هذا الجو الخانق... عقدت الجلسة الثانية من المحاكمات العسكرية التي يحاكم فيها قياديون من جماعة الإخوان المسلمين .... ستذهب في هذا اليوم ولن يخطر ببالك صعوبة المكان إلي هذا الحد , ولن يخطر ببالك أن تظل واقفا لأكثر من 8 ساعات في هذا الجو .... لن تتخيل أن تجد هذه السيدة المسنة التي لا تقوي علي الحركة وهي تقف علي الحاجز في انتظار السماح ... ولن تتخيل هؤلاء الأطفال وهم يلعبون ولا يعرفون ما الذي جاء بهم إلي هنا ... ولن تتخيل أن تشاهد هذه المشاهد وأن تسمع هذه الهتافات ... أو أن تسجل كل هذه الانطباعات .... لن تتخيل أن تقابل بهذا الجفاء وبهذه القسوة من قوم ينتمون إليك وإلي هذا الوطن وهذا التراب وهذه الأرض ....
( 2 )
هل يمكن أن يكون الأمر مقصودا ؟؟ أو أنك سمعت الاسم خطأ؟ وهل عرف من سماها بهذا الاسم أن يأتيها يوما من يحتاج إلي أن يتذكر هذا الرجل بصبره واحتماله وأن يوقن أن هذا قدره؟ ... قدر صاحب الاسم ... وقدر صاحب الحدث ....
"بوابة أيوب" ...
هكذا يمكنك أن تسمع الاسم من هذا العسكري أسمر البشرة الواقف تحت الشمس حين تسأله عن مكان المحاكمة العسكرية ... ويشير بيديه واصفا لك مكانها وماذا تركب لتصل إلي هناك ....
فقبل الساعة التاسعة تصل إلي بوابة الهايكستب .... علي طريق الإسماعيلية ... من الميكروباص تنزل لتفاجأ أن المكان ليس هنا وإنما في بوابة أخري تسمي بوابة "أيوب" ,وفي هذا الجو تحاول إيجاد ميكروباص أو حتى تاكسي ... لتصل إلي مكانك بعد طول عناء ....
( 3 )
"كافيتريا البواسل"
هذا المبني المكون من طابقي واحد مرتفع عن الأرض قليلا ... منه تستطيع أن تري الصحراء حولك من كل مكان ... وتستطيع أن تري المئات من أهالي الإخوان المعتقلين والمئات من مناصريهم الذين جاءوا يساندوهم ... وكل أملهم أن يلقوا نظرة ... يسمعوا كلمة ... يبادلونهم ابتسامة .... تستطيع أن تشتري من هناك ... عصائر ومشروبات باردة وأن تجد العديد من المخبوزات ... ولكن هل جاء كل هؤلاء وقطعوا تلك المسافة لمجرد أن يشتروا كل هذا ؟؟؟ هل ستتعجب وأنت تري عائشة حسن مالك هذه الطفلة الصغيرة وهي تجري علي السلم وفي يدها ما تشرب منه .... لا تتعجب حين تسمعها تعرض علي طفلة معها أن تشتري من ذلك مثلها أم هل تريد شيئا آخر؟؟ لأني سمعتها وهي تعرض عليها ذلك ... وبرغم وقوفها وسط الزحام الشديد لكنك تستطيع أن تراها .... و لن تستطيع مقاومة حالة التعاطف معها .... ؟
( 4 )
في حوالي الساعة العاشرة إلا ربع .. .ستلمح "إيمان عبد النعم" ... قادمة من بعيد ... في هذا الجو يا إيمان؟ لم العجلة؟ بل لم المشوار في هذا الجو ؟؟ الصحفيون والعاملون بالإعلام كثيرون في مكاتبهم ... وبالمئات ينتظرون أن يأتي من يحكي لهم .... هل أنت وأنت الفتاة أقوي منهم ؟؟؟ وهل أنت حديثة السن أكثر خبرة منهم ؟؟ أم أنت في عهد البراءة ذلك أصدق وأوعي وأخلص منهم ....؟ ألم تستطيعي الانتظار في مكتبك وتقصي علينا حكاية عن هذه المجموعة المتلصصة وهذه الفئة المارقة التي تدعو للإرهاب وتعطل الدستور وتنتمي لجماعة محظورة ؟؟؟
ستجدين كثيرون يشفقون عليك ... وآخرون يثبطون تلك الهمة ويسخرون منها ... وستجدين آخرين يتمنون لو يصبحوا عشر ما أنت عليه ........ أما أنت ... فستبقين تسجلين الألم .... ألم الوطن ... بقلم الوطن ....
( 5 )
"زهراء خيرت الشاطر" ستأتي وأنت تتمني أن تري هذه السيدة الصغيرة التي بهرت كل وسائل الإعلام ... وستراها .. ولكن ليس كما يصورها الإعلام ... ستجد هذه الأم تبحث عن صغيرها وتنادي عليه ... ومرة تشده من يده ... لأته يريد أن يجري منها .... ستراها وهي تدور بعينيها تبحث عن هذا الشقي الصغير ... ولن تملك إلا أن تبتسم وأنت تراها تسحبه من يديه ... هي سيدة عادية مثل أمي وأختي الكبيرة .... سيكون طبيعيا أن تجد نفسك مدفوعا للبحث عن باقي الأهالي الذين كنت تسمع عنهم .. وأن تنظر في الوجوه لعلك تعرف أحدا منهم .. كي تعود لتحكي لأهلك عمن رأيت وعما رأيت ... لن تستطيع أن تفرق بينها وبين كثيرين ... جمعهم رفقة ذويهم وراء السجون ... وألم الانتظار تحت نار الشمس الحارقة هنا ...
( 6 )
هل مللت من الانتظار ؟؟ الساعة جاوزت الحادية عشر والنصف ... لا يزال اليوم طويلا ... لا تتعجل .... ثم لم الملل؟ وقد بدأوا ينادون علي المحامين من أجل الدخول ... لا تبتسم هكذا... فمن الطبيعي عدم الابتسام في مثل هذا الموقف .. لأنك ستجد أوامر من نوعية ..لن يدخل إلا محامي واحد فقط لكل متهم ؟ لا تصرخ كثيرا مع كل من صرخ من المحامين الواقفين .... لا تتعصب كما تعصب عبد المنعم عبد المقصود المحامي الإخواني ... لا تأتي مسرعا وأنت كبير السن في عمر سيف الإسلام حسن البنا ... لا تغيب كثيرا حين ينادوا عليك مثل الأستاذ المحامي محمد طوسون لتدخل لعرض الأمر علي القاضي ليتفضل ويسمح بدخول المحامين والأهالي ....
لا تتعصب لو حشروك مع المحامين في حجرة ضيقة بغرض تفتيشك وأنت المحامي .... ثم بعد ذلك يعطي لعدد بسيط جدا منكم تصريحا بالدخول بعد قضاء أكثر من ساعة في هذه الوقفة التفتيشية .... لا تغضب وأنت تري علي هذا التصريح الممنوعات الأربعة ... ممنوع استخدام المحمول .. ممنوع الأدوات الكتابية ... ممنوع التصوير ... ممنوع التحركات الفردية ... ويجب الالتزام بالتعليمات الأمنية ....
لا تضحك عندنا تقول: "حتى الأقلام ممنوعة ؟" .... فيرد عليك أحد الواقفين بجوارك :" مين اللي قال قصدهم الأقلام والأوراق والحاجات دي ... دي اسمها أدوات مكتبية ... هم قصدهم متجبوش أدوات كتابية يعني متجبش معاك مكتب ولا أباجورة ..ولا تجيب معاك ترابيزة ... ولا كده يعني! ... "
ألم أحذرك ؟ ..... لا تضحك ....
( 7 )
حين تفتح التليفزيون في بيتك وتري مجندات يفتشن السيدات في العراق أو فلسطين أو أي بلد محتل في العالم ... لا تتعجب فلم يعد المشهد هناك فقط .... لأنك اليوم ستري مثله .. بعد انتظار أكثر من ثلاث ساعات ونصف في الشمس الحارقة .... في صورة مهينة للغاية تأتي أختك الصغيرة ووالدتك المسنة وهذه الفتاة الطيبة الملامح .... وتلك الأخرى المليئة عيناها بالدموع .... سيقضون كلهم وقتا طويلا وهم يخضعون للتفتيش بأمر من أبناء بلدهم .... ويؤخذ منهم كل ما يمكن أن يصلهم بالعالم الخارجي ... ولو حتى ورقة صغيرة ....
بعدها بأكثر من ساعة ستجد حلا وحيدا أمامك وأنت تري بعض الأهالي يجمعون بطاقاتهم الشخصية ويدخل بها أحدهم للقاضي ليسمح لهؤلاء فقط بالدخول دون الآخرين ..بل حين ينادي علي عبد الرحمن الذي ذهب يشرب بعيدا بعض الشيء ولا يجدونه لا يسمحوا له بالدخول بعد أن جاء مسرعا ... رغم أن بطاقته واسمه نودي علي كما تري ....
( 8 )
لو قدر لك أن تدخل إلي قاعة المحكمة ... فستجدهم المحبوسين في القفص علي يسارك ...يؤذنون للصلاة ويصلون الظهر جماعة... ستنزل رهبة الصلاة عليكم جميعا وستردد معهم دعائهم الذي أطالوا فيه ... ستجد في داخلك رغبة في الحديث إلي أحدهم ... لكن نظرة واحدة من أيهم ستنهي كل ما في داخلك من رهبة وخوف وتبعث في داخلك هذه الطمأنينة والأمان .... هذا الممر الحائل بين القفص وبين القاعة كي لا تستطيع أن تلمس أحدا منهم لن يهمك .... لن تهمك المرافعات وأقوال القاضي والمحامين .. فأنت تعلم أن هذا الجالس علي الكرسي ... لا يهتم بكل هذا وأن القرار معروف من قبل .. وأن كل ما تفعله هو فضح هذا النظام ونشر جرائمه ...
سيأخذك التطلع إلي وجوه الأطفال والسيدات ... سيأخذ عقلك وقلبك وبالك ... ستنسي معه أي شيء وكل شيء ....
ستهزأ في داخلك من هذا الذي يدير المحكمة وهو يصرخ في العسكري:"هات مياه "مية" للبيه المحامي يا شرطة" ... هل هذا حقيقي ..أنت تعلم الجواب ولكنك تتساءل عن المسرحية ؟؟ ... أنت تتساءل وهو يتساءل :" ليه قاعدين في الشمس يا جماعة؟ " ... أنت تتساءل وهو يقول بسماحة صدره بفتح هذا الممر ليدخل الأهالي منه وتنتهي الجلسة ولا يدخلون ... أنت تتساءل وهو ينطق بالتأجيل في النهاية .. ولا تملك جوابا ...
( 9 )
أما لو كنت بالخارج .....
الآن حان الوقت لكي تعرف أنهم لن يسمحوا لأحد آخر بالدخول .. وأن المئات الواقفون هنا لن يتمكنوا من الدخول إلي قاعة المحكمة ... وتبدأ معهم في الهتاف والتظاهر بكل ما فيك من قوة ... هل تستطيع أن تسكت وأنت تري أحد ظباط أمن الدول يخرج زاعقا في الواقفين ؟ هل ترد مثلما رد عليه أحدهم :"أنت ملكش كلمة علينا هنا ..إحنا مش عساكر عندك ؟ .. أنت تصرخ في جنودك فقط .. لكن لا سلطة لك علينا هنا أبدا" ....
لن تستطيع أن تسكت وأنت تسمع الأهالي يصرخون .."أمن الدولة يا أمن الدولة ... عمر الظلم ما قوم دولة".... فعلا لن تسكت ... سيجول بخاطرك .. إلي هذه الدرجة يتحكم ظباط أمن الدولة في هذا البلد؟ رأيتهم من قبل يسيطرون علي جنود الأمن المركزي .. وعلي ظباط المباحث .. بل ورأيتهم ... يحركون الأمر ليقضوا علي حركة القضاة ... لكنك لم تتصور أن يصل جبروتهم إلي التدخل في أمور الجيش؟ ...
لن تسكت وأنت تردد معهم "قولوا يا ناس لراس الدولة ... عمر الظلم ما قوم دولة" ..... ستتساءل؟ هل فعلا يوجد من يقول له ؟ وهل فعلا يوجد من يسمعه صوتك؟ بل هل يوجد من يستطيع أن يقول له ذلك ؟...
لن تسكت وهم يقولون "آه يا مصر ... وآه يا مصر ... لسة فيكي سجون وقصر" .... ستتساءل ثانية ؟؟ ماذا يفعل رئيس مصر الآن ؟ هل يهتم بك فعلا؟ هل يهتم لأمرك ؟ هل يهمه أن تخرج أو لا تخرج .. أن تسكت أو لا تسكت ... أن تصرخ أو لا تصرخ ؟؟
لن تسكت وأنت معهم تنادي "مصر يا أم ... ولادك أهم .. دول علشانك شربوا الهم" .... ستتساءل عن هذه الأم ؟؟ وهل لازالت تعتبرك ابنها ؟ولماذا قدرك وأنت المحب العاشق الولهان ... أن تري كل هذا الجفاء من أخوتك من هذه الأم ... ستتساءل لماذا يريدون أن يبعدونا عن هذه الأم وما مصلحتهم في ذلك؟ ... لماذا لم يكتفوا ويشبعوا إلي الآن؟... ولماذا لا يدعوها بعد أن ملؤها فسادا ... ويرحلوا؟ ... لماذا لا يتركوك تواجه مصيرك فيها وحدك ؟
لن تسكت وهم يهتفون"قول يا خيرت ... قول يا شاطر ... مش حنبطل مش حنسافر" .... الآن لا تتساءل ... لأنك تعرف أنهم لا يريدونك هنا ... ولا يريدون وجودك في هذه البلد أساسا ... ستردد مع الإخوان .. ومع كفاية .. ومع الكرامة والوسط والغد ... ستردد مع الاشتراكيين الثوريين ... ستردد مع كل المصريين مش حنبطل ... مش حنسافر ...
لن تسكت وستردد معهم ..."بلادي بلادي اسلمي وانعمي ... سأرويك حين الظما من دمي" ....
( 10 )
الآن وقد جاوزت الساعة الرابعة والربع ... المئات استلقوا علي الأرض .. تتمني لو معك كاميرا كي تصور كل هؤلاء وهم مفترشين الأرض ... ستجد الصورة غير متناسقة بين الملبس والهيئة وبين نومهم علي الأرض والتراب... ستقرأ جريدة "الدستور" وفيها خبر عن المحاكمة ... وستجد "المصري اليوم" لازلت تحرض علي هؤلاء المسجونين بحديثها عن لقاء سري غامض بين قادة من حماس وآخرين من الإخوان .... لا تتعجب وأنت تري من بين الأسماء أناس من غير الإخوان ... الآن لن تتعجب ... الأيام تثبت دائما والمواقف تتحدث ... ستحاول النوم قليلا علي الأرض ولن تستطيع لآن الذباب سيضايقك للغاية ... ستجلس بجوار الجنود علي البوابة .. ستأتيهم الإخبارية الآن بانتهاء الجلسة وبأن المحامين والأهالي في الطريق .... ستتجمعون جميعا علي السور تنظرون إلي القادمين من بعيد .. ستنزل سيدة .. وأول ما تقول .. تأجيل إلي 15 /7 ... وحسبنا الله ونعم الوكيل ...
من داخلك ... ستبدأ في الدعاء علي المستبدين ... يكتمل الجمع الخارج .... لن تبكي الآن ... فمنظر السيدات وهم خارجات باكيات مبكي ... ومنظر الأطفال وهم خارجين من السور يذكرك بأرض محتلة ... ومنظر هذه السيدة وهي تعطي تليفونها لإيمان يؤكد لك أنهم يحتاجون من يقف بجوارهم ويسأل عنهم ويطمئنهم علي ذويهم .. هؤلاء الفتيات الصغيرات دموعهم ستؤثر فيك وستهزك الدموع المختفية خلف النظارات .... ستنطلق الصرخة من أعماقك ... ترفض..تصرخ..تئن..تتوجع ... ولكنه قدرك ...
أنت المصاب بحب هذه البلد ... أنت المصاب بداء العشق ... أنت المصاب بمرض لا شفاء له .... أنت المصاب بحالة الهيام الأبدية ... أنت المحب والعاشق والولهان ... أنت الهائم علي وجهك في البرية ... أنت الصارخ في وجه الظلمة ... أنت الرافع صوتك ضد الظلم وضد السجن وضد الحبس ....
( 1 )
الأحد 3/7/2007 م..... التاسعة صباحا ....
كان المشهد كالتالي ... رمال قاحلة ... عميقة ... حارة ... رمال من التي نراها علي حدود الدول ... أو في أعماق الصحاري الشاسعة ... رمال من التي لا تصلح لوجود البشر فيها ... بل لا تصلح لوجد غير البشر كذلك ...
في هذا الجو الخانق... عقدت الجلسة الثانية من المحاكمات العسكرية التي يحاكم فيها قياديون من جماعة الإخوان المسلمين .... ستذهب في هذا اليوم ولن يخطر ببالك صعوبة المكان إلي هذا الحد , ولن يخطر ببالك أن تظل واقفا لأكثر من 8 ساعات في هذا الجو .... لن تتخيل أن تجد هذه السيدة المسنة التي لا تقوي علي الحركة وهي تقف علي الحاجز في انتظار السماح ... ولن تتخيل هؤلاء الأطفال وهم يلعبون ولا يعرفون ما الذي جاء بهم إلي هنا ... ولن تتخيل أن تشاهد هذه المشاهد وأن تسمع هذه الهتافات ... أو أن تسجل كل هذه الانطباعات .... لن تتخيل أن تقابل بهذا الجفاء وبهذه القسوة من قوم ينتمون إليك وإلي هذا الوطن وهذا التراب وهذه الأرض ....
( 2 )
هل يمكن أن يكون الأمر مقصودا ؟؟ أو أنك سمعت الاسم خطأ؟ وهل عرف من سماها بهذا الاسم أن يأتيها يوما من يحتاج إلي أن يتذكر هذا الرجل بصبره واحتماله وأن يوقن أن هذا قدره؟ ... قدر صاحب الاسم ... وقدر صاحب الحدث ....
"بوابة أيوب" ...
هكذا يمكنك أن تسمع الاسم من هذا العسكري أسمر البشرة الواقف تحت الشمس حين تسأله عن مكان المحاكمة العسكرية ... ويشير بيديه واصفا لك مكانها وماذا تركب لتصل إلي هناك ....
فقبل الساعة التاسعة تصل إلي بوابة الهايكستب .... علي طريق الإسماعيلية ... من الميكروباص تنزل لتفاجأ أن المكان ليس هنا وإنما في بوابة أخري تسمي بوابة "أيوب" ,وفي هذا الجو تحاول إيجاد ميكروباص أو حتى تاكسي ... لتصل إلي مكانك بعد طول عناء ....
( 3 )
"كافيتريا البواسل"
هذا المبني المكون من طابقي واحد مرتفع عن الأرض قليلا ... منه تستطيع أن تري الصحراء حولك من كل مكان ... وتستطيع أن تري المئات من أهالي الإخوان المعتقلين والمئات من مناصريهم الذين جاءوا يساندوهم ... وكل أملهم أن يلقوا نظرة ... يسمعوا كلمة ... يبادلونهم ابتسامة .... تستطيع أن تشتري من هناك ... عصائر ومشروبات باردة وأن تجد العديد من المخبوزات ... ولكن هل جاء كل هؤلاء وقطعوا تلك المسافة لمجرد أن يشتروا كل هذا ؟؟؟ هل ستتعجب وأنت تري عائشة حسن مالك هذه الطفلة الصغيرة وهي تجري علي السلم وفي يدها ما تشرب منه .... لا تتعجب حين تسمعها تعرض علي طفلة معها أن تشتري من ذلك مثلها أم هل تريد شيئا آخر؟؟ لأني سمعتها وهي تعرض عليها ذلك ... وبرغم وقوفها وسط الزحام الشديد لكنك تستطيع أن تراها .... و لن تستطيع مقاومة حالة التعاطف معها .... ؟
( 4 )
في حوالي الساعة العاشرة إلا ربع .. .ستلمح "إيمان عبد النعم" ... قادمة من بعيد ... في هذا الجو يا إيمان؟ لم العجلة؟ بل لم المشوار في هذا الجو ؟؟ الصحفيون والعاملون بالإعلام كثيرون في مكاتبهم ... وبالمئات ينتظرون أن يأتي من يحكي لهم .... هل أنت وأنت الفتاة أقوي منهم ؟؟؟ وهل أنت حديثة السن أكثر خبرة منهم ؟؟ أم أنت في عهد البراءة ذلك أصدق وأوعي وأخلص منهم ....؟ ألم تستطيعي الانتظار في مكتبك وتقصي علينا حكاية عن هذه المجموعة المتلصصة وهذه الفئة المارقة التي تدعو للإرهاب وتعطل الدستور وتنتمي لجماعة محظورة ؟؟؟
ستجدين كثيرون يشفقون عليك ... وآخرون يثبطون تلك الهمة ويسخرون منها ... وستجدين آخرين يتمنون لو يصبحوا عشر ما أنت عليه ........ أما أنت ... فستبقين تسجلين الألم .... ألم الوطن ... بقلم الوطن ....
( 5 )
"زهراء خيرت الشاطر" ستأتي وأنت تتمني أن تري هذه السيدة الصغيرة التي بهرت كل وسائل الإعلام ... وستراها .. ولكن ليس كما يصورها الإعلام ... ستجد هذه الأم تبحث عن صغيرها وتنادي عليه ... ومرة تشده من يده ... لأته يريد أن يجري منها .... ستراها وهي تدور بعينيها تبحث عن هذا الشقي الصغير ... ولن تملك إلا أن تبتسم وأنت تراها تسحبه من يديه ... هي سيدة عادية مثل أمي وأختي الكبيرة .... سيكون طبيعيا أن تجد نفسك مدفوعا للبحث عن باقي الأهالي الذين كنت تسمع عنهم .. وأن تنظر في الوجوه لعلك تعرف أحدا منهم .. كي تعود لتحكي لأهلك عمن رأيت وعما رأيت ... لن تستطيع أن تفرق بينها وبين كثيرين ... جمعهم رفقة ذويهم وراء السجون ... وألم الانتظار تحت نار الشمس الحارقة هنا ...
( 6 )
هل مللت من الانتظار ؟؟ الساعة جاوزت الحادية عشر والنصف ... لا يزال اليوم طويلا ... لا تتعجل .... ثم لم الملل؟ وقد بدأوا ينادون علي المحامين من أجل الدخول ... لا تبتسم هكذا... فمن الطبيعي عدم الابتسام في مثل هذا الموقف .. لأنك ستجد أوامر من نوعية ..لن يدخل إلا محامي واحد فقط لكل متهم ؟ لا تصرخ كثيرا مع كل من صرخ من المحامين الواقفين .... لا تتعصب كما تعصب عبد المنعم عبد المقصود المحامي الإخواني ... لا تأتي مسرعا وأنت كبير السن في عمر سيف الإسلام حسن البنا ... لا تغيب كثيرا حين ينادوا عليك مثل الأستاذ المحامي محمد طوسون لتدخل لعرض الأمر علي القاضي ليتفضل ويسمح بدخول المحامين والأهالي ....
لا تتعصب لو حشروك مع المحامين في حجرة ضيقة بغرض تفتيشك وأنت المحامي .... ثم بعد ذلك يعطي لعدد بسيط جدا منكم تصريحا بالدخول بعد قضاء أكثر من ساعة في هذه الوقفة التفتيشية .... لا تغضب وأنت تري علي هذا التصريح الممنوعات الأربعة ... ممنوع استخدام المحمول .. ممنوع الأدوات الكتابية ... ممنوع التصوير ... ممنوع التحركات الفردية ... ويجب الالتزام بالتعليمات الأمنية ....
لا تضحك عندنا تقول: "حتى الأقلام ممنوعة ؟" .... فيرد عليك أحد الواقفين بجوارك :" مين اللي قال قصدهم الأقلام والأوراق والحاجات دي ... دي اسمها أدوات مكتبية ... هم قصدهم متجبوش أدوات كتابية يعني متجبش معاك مكتب ولا أباجورة ..ولا تجيب معاك ترابيزة ... ولا كده يعني! ... "
ألم أحذرك ؟ ..... لا تضحك ....
( 7 )
حين تفتح التليفزيون في بيتك وتري مجندات يفتشن السيدات في العراق أو فلسطين أو أي بلد محتل في العالم ... لا تتعجب فلم يعد المشهد هناك فقط .... لأنك اليوم ستري مثله .. بعد انتظار أكثر من ثلاث ساعات ونصف في الشمس الحارقة .... في صورة مهينة للغاية تأتي أختك الصغيرة ووالدتك المسنة وهذه الفتاة الطيبة الملامح .... وتلك الأخرى المليئة عيناها بالدموع .... سيقضون كلهم وقتا طويلا وهم يخضعون للتفتيش بأمر من أبناء بلدهم .... ويؤخذ منهم كل ما يمكن أن يصلهم بالعالم الخارجي ... ولو حتى ورقة صغيرة ....
بعدها بأكثر من ساعة ستجد حلا وحيدا أمامك وأنت تري بعض الأهالي يجمعون بطاقاتهم الشخصية ويدخل بها أحدهم للقاضي ليسمح لهؤلاء فقط بالدخول دون الآخرين ..بل حين ينادي علي عبد الرحمن الذي ذهب يشرب بعيدا بعض الشيء ولا يجدونه لا يسمحوا له بالدخول بعد أن جاء مسرعا ... رغم أن بطاقته واسمه نودي علي كما تري ....
( 8 )
لو قدر لك أن تدخل إلي قاعة المحكمة ... فستجدهم المحبوسين في القفص علي يسارك ...يؤذنون للصلاة ويصلون الظهر جماعة... ستنزل رهبة الصلاة عليكم جميعا وستردد معهم دعائهم الذي أطالوا فيه ... ستجد في داخلك رغبة في الحديث إلي أحدهم ... لكن نظرة واحدة من أيهم ستنهي كل ما في داخلك من رهبة وخوف وتبعث في داخلك هذه الطمأنينة والأمان .... هذا الممر الحائل بين القفص وبين القاعة كي لا تستطيع أن تلمس أحدا منهم لن يهمك .... لن تهمك المرافعات وأقوال القاضي والمحامين .. فأنت تعلم أن هذا الجالس علي الكرسي ... لا يهتم بكل هذا وأن القرار معروف من قبل .. وأن كل ما تفعله هو فضح هذا النظام ونشر جرائمه ...
سيأخذك التطلع إلي وجوه الأطفال والسيدات ... سيأخذ عقلك وقلبك وبالك ... ستنسي معه أي شيء وكل شيء ....
ستهزأ في داخلك من هذا الذي يدير المحكمة وهو يصرخ في العسكري:"هات مياه "مية" للبيه المحامي يا شرطة" ... هل هذا حقيقي ..أنت تعلم الجواب ولكنك تتساءل عن المسرحية ؟؟ ... أنت تتساءل وهو يتساءل :" ليه قاعدين في الشمس يا جماعة؟ " ... أنت تتساءل وهو يقول بسماحة صدره بفتح هذا الممر ليدخل الأهالي منه وتنتهي الجلسة ولا يدخلون ... أنت تتساءل وهو ينطق بالتأجيل في النهاية .. ولا تملك جوابا ...
( 9 )
أما لو كنت بالخارج .....
الآن حان الوقت لكي تعرف أنهم لن يسمحوا لأحد آخر بالدخول .. وأن المئات الواقفون هنا لن يتمكنوا من الدخول إلي قاعة المحكمة ... وتبدأ معهم في الهتاف والتظاهر بكل ما فيك من قوة ... هل تستطيع أن تسكت وأنت تري أحد ظباط أمن الدول يخرج زاعقا في الواقفين ؟ هل ترد مثلما رد عليه أحدهم :"أنت ملكش كلمة علينا هنا ..إحنا مش عساكر عندك ؟ .. أنت تصرخ في جنودك فقط .. لكن لا سلطة لك علينا هنا أبدا" ....
لن تستطيع أن تسكت وأنت تسمع الأهالي يصرخون .."أمن الدولة يا أمن الدولة ... عمر الظلم ما قوم دولة".... فعلا لن تسكت ... سيجول بخاطرك .. إلي هذه الدرجة يتحكم ظباط أمن الدولة في هذا البلد؟ رأيتهم من قبل يسيطرون علي جنود الأمن المركزي .. وعلي ظباط المباحث .. بل ورأيتهم ... يحركون الأمر ليقضوا علي حركة القضاة ... لكنك لم تتصور أن يصل جبروتهم إلي التدخل في أمور الجيش؟ ...
لن تسكت وأنت تردد معهم "قولوا يا ناس لراس الدولة ... عمر الظلم ما قوم دولة" ..... ستتساءل؟ هل فعلا يوجد من يقول له ؟ وهل فعلا يوجد من يسمعه صوتك؟ بل هل يوجد من يستطيع أن يقول له ذلك ؟...
لن تسكت وهم يقولون "آه يا مصر ... وآه يا مصر ... لسة فيكي سجون وقصر" .... ستتساءل ثانية ؟؟ ماذا يفعل رئيس مصر الآن ؟ هل يهتم بك فعلا؟ هل يهتم لأمرك ؟ هل يهمه أن تخرج أو لا تخرج .. أن تسكت أو لا تسكت ... أن تصرخ أو لا تصرخ ؟؟
لن تسكت وأنت معهم تنادي "مصر يا أم ... ولادك أهم .. دول علشانك شربوا الهم" .... ستتساءل عن هذه الأم ؟؟ وهل لازالت تعتبرك ابنها ؟ولماذا قدرك وأنت المحب العاشق الولهان ... أن تري كل هذا الجفاء من أخوتك من هذه الأم ... ستتساءل لماذا يريدون أن يبعدونا عن هذه الأم وما مصلحتهم في ذلك؟ ... لماذا لم يكتفوا ويشبعوا إلي الآن؟... ولماذا لا يدعوها بعد أن ملؤها فسادا ... ويرحلوا؟ ... لماذا لا يتركوك تواجه مصيرك فيها وحدك ؟
لن تسكت وهم يهتفون"قول يا خيرت ... قول يا شاطر ... مش حنبطل مش حنسافر" .... الآن لا تتساءل ... لأنك تعرف أنهم لا يريدونك هنا ... ولا يريدون وجودك في هذه البلد أساسا ... ستردد مع الإخوان .. ومع كفاية .. ومع الكرامة والوسط والغد ... ستردد مع الاشتراكيين الثوريين ... ستردد مع كل المصريين مش حنبطل ... مش حنسافر ...
لن تسكت وستردد معهم ..."بلادي بلادي اسلمي وانعمي ... سأرويك حين الظما من دمي" ....
( 10 )
الآن وقد جاوزت الساعة الرابعة والربع ... المئات استلقوا علي الأرض .. تتمني لو معك كاميرا كي تصور كل هؤلاء وهم مفترشين الأرض ... ستجد الصورة غير متناسقة بين الملبس والهيئة وبين نومهم علي الأرض والتراب... ستقرأ جريدة "الدستور" وفيها خبر عن المحاكمة ... وستجد "المصري اليوم" لازلت تحرض علي هؤلاء المسجونين بحديثها عن لقاء سري غامض بين قادة من حماس وآخرين من الإخوان .... لا تتعجب وأنت تري من بين الأسماء أناس من غير الإخوان ... الآن لن تتعجب ... الأيام تثبت دائما والمواقف تتحدث ... ستحاول النوم قليلا علي الأرض ولن تستطيع لآن الذباب سيضايقك للغاية ... ستجلس بجوار الجنود علي البوابة .. ستأتيهم الإخبارية الآن بانتهاء الجلسة وبأن المحامين والأهالي في الطريق .... ستتجمعون جميعا علي السور تنظرون إلي القادمين من بعيد .. ستنزل سيدة .. وأول ما تقول .. تأجيل إلي 15 /7 ... وحسبنا الله ونعم الوكيل ...
من داخلك ... ستبدأ في الدعاء علي المستبدين ... يكتمل الجمع الخارج .... لن تبكي الآن ... فمنظر السيدات وهم خارجات باكيات مبكي ... ومنظر الأطفال وهم خارجين من السور يذكرك بأرض محتلة ... ومنظر هذه السيدة وهي تعطي تليفونها لإيمان يؤكد لك أنهم يحتاجون من يقف بجوارهم ويسأل عنهم ويطمئنهم علي ذويهم .. هؤلاء الفتيات الصغيرات دموعهم ستؤثر فيك وستهزك الدموع المختفية خلف النظارات .... ستنطلق الصرخة من أعماقك ... ترفض..تصرخ..تئن..تتوجع ... ولكنه قدرك ...
أنت المصاب بحب هذه البلد ... أنت المصاب بداء العشق ... أنت المصاب بمرض لا شفاء له .... أنت المصاب بحالة الهيام الأبدية ... أنت المحب والعاشق والولهان ... أنت الهائم علي وجهك في البرية ... أنت الصارخ في وجه الظلمة ... أنت الرافع صوتك ضد الظلم وضد السجن وضد الحبس ....
مع أمل دنقل في ذكراه تردد ..... " أنت فارس هذا الزمان الوحيد وسواك المسوخ ...."
Labels: الجلسة الثانية للمهزلة
0 التعليقات :
Subscribe to:
Post Comments (Atom)