حوار- إيمان يس
بقلبٍ أثقلته الهموم حتى لازمته الأزمات والنوبات الحادة، وبنفسٍ تحمل الحبَّ وتَبذُر الخيرَ، موقنةً أنها لن تجنيَ إلا أطيب الثمار، وبعزيمةٍ على المضي قدمًا على درب الأنبياء والأئمة والتابعين، وبعبراتٍ أسكتت صوته المنهك.. أرسل الحاج حسن زلط أحد الحاصلين على حكم البراءة من بين الأربعين المحالين إلى القضاء العسكري بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين؛ رسالةً إلى إخوانه الذين ما زالوا خلف القضبان قائلاً: "لم أفرح ولن أفرح حتى تخرجوا جميعًا؛ فأنتم مثلي مظلومون".
هذه الكلمات قالها زلط بعد البراءة مباشرةً، ولظروفه الصحية تأجَّل معه الحوار أكثر مرة حتى التقينا به قبل مغادرته إلى ألمانيا في رحلة علاجٍ تشمل تركيب دعامات بالقلب.
وفي حديثه معنا أكَّد زلط لنا أنه "فور إعلان حكم البراءة أسرع أهل بلدتي بمحافظة الغربية بالتوجه إلى بيتي في التجمع الخامس بعددٍ كبيرٍ من السيارات ليقيموا لي حفلاً كبيرًا، عندما رأيتُه من بعيدٍ ظننته حفل زفاف أحد أبناء الجيران، لكنني شكرتهم واعتذرت لهم جميعًا؛ فأنا لا أستطيع أن أفرح وحدي بعيدًا عن إخواني، وانصرفت وصورة أبناء إخواني وزوجاتهم تئنُّ أمام عينيّ، وكأنها تسألني: "أيحق لك أن تفرح وقد فرَّقت قضبان الظلم بيننا وبين آبائنا وأحبائنا؟!"، فأجبتهم: أسأل الله أن يربطَ على قلوبكم وقلوبهم كما ربط على قلب أم موسى، وأوصيتهم بالحفاظ على أنفسهم وعلى صحتهم".
لكن الحاج زلط الذي لم تُنسِه آلامُه ولم تشغله البراءة عن إخوانه، لم ينسَ أيضًا في وصيته لهم أن يذكِّرهم بأن الكلمة الطيبة صدقةٌ؛ فقد أوصاهم الإمام البنا- رحمه الله- بأن يكونوا كالشجر؛ ترميه الناسُ بالحجارة فيتساقط عليهم بأطيب الثمر.
وتبسَّم الحاج زلط وهو يروي لنا أثر الكلمة الطيبة على نفوس الضباط والحراس؛ فأحد الضباط قد صرَّح له عن شعوره بالحياء وهو يقتاد هؤلاء العظماء إلى زنازينهم، أو وهو يقوم بحراستهم، وهذا ضابط آخر أصبح يحافظ على الصلاة، وثالثٌ ترك الرشوة عندما أخبروه بأنها قِطعةٌ من النار.
أما الحارس الذي لا ينساه الحاج زلط، فهو ذلك الذي بكى لخروجه وحزن لفراقه قائلاً: "يوم خروجك يومٌ تُوفِّي فيه والدي"!!، كما أن زوجة ذلك الحارس اتصلت بالحاج زلط لتسأله: "ماذا فعلت في زوجي؟! وكيف تغيَّر إلى هذا الحد؟!؛ فقد أصبح يصلي ويأمرني وأبنائي بالصلاة، كما أصبح يتحلَّى بحسن الخلق"!!، وقالت الزوجة إن زوجها قد تحوَّل 180 درجةً، ويتساءل الحاج زلط: "إذا كنا نستطيع أن نُلين الحديد.. فهل قلوب العباد أقسى من الحديد؟!".
جماعة حب وإصلاح
وبالقلب الذي فاض منه حبُّ الله حتى أصبح ينبضَ بالحب لكل الناس، تحدَّث الحاج زلط عن الجماعة التي تعلَّم منها الحبَّ قائلاً: "نحن جماعةُ حبٍّ وإصلاحٍ؛ امتلأت قلوبنا بحب مصر، ونريد الخير للجميع، ولسنا جماعةَ عنفٍ وتخريبٍ، ولا نريد الكراسيَ، لكننا نعمل لله؛ فالإخوان فصيلٌ يحب وطنه، ويسعى إلى تنميته وازدهاره، كان على النظام أن يوظِّف هذا الحب وهذه الطاقات للإصلاح؛ فأنا أراقب حال مصر وأضع يدي على قلبي وأنا أرى هذه الأزمات وتلك الضغوط، وألمَحُ هناك في الأفق القريب ثورةَ جياع".
الشاطر ومصر
وبحبٍّ أكبر وبدمعةٍ أخرى تذكَّر الحاج زلط أحد رفقاء دربه، المهندس خيرت الشاطر قائلاً: "والله.. لولا مرضي لطلبت من الأمن الإفراج عن الشاطر وحبسي بدلاً منه؛ فهو أفضل مني، ويحب مصر أكثر مني، وهو رجلٌ يتقي الله في كل شيء، وقد أنعم الله عليه بعقليةٍ اقتصاديةٍ فذةٍ، أسأل الله أن يحفظها له، وييسر له سبيلاً لينفع مصر بهذه العقلية".
وتابع زلط كلماته التي خرجت هذه المرة من قلب الوالد الحاني، ووجَّه هذه الكلمات إلى الجيل الصاعد من شباب الإخوان قائلاً: "أتمنى على أبنائي من الجيل القادم أن يتعلَّموا من الجيل الذي سبقهم الصبرَ والصدقَ والثباتَ، وأن يحترم صغيرُهم كبيرَهم؛ فليس منا من لم يوقِّر كبيرنا، وأهم ما أوصيهم به ألا يندفعوا وراء الشائعات، كما أوصيهم بالثبات وعدم التعامل مع الأمن إلا بالرفق واللين".
وبالرفق الذي يدعو إليه زلط أبناءَ الإخوان، وجَّه نداءه إلى النظام قائلاً: "قد جعلتم منا قيادات، وأنا رجل بسيط، فاسمعوا مني: ارجعوا إلى الله، واتقوا الله في الإخوان المسلمين.. كفاكم "بهدلة" للإخوان المسلمين؛ فأنتم تعاملون الصهاينة برفقٍ وتعاملون الإخوان بقسوةٍ، حتى أصبحنا في مصر غرباء عن وطننا، وأصبح الشعب المصري مغلوبًا على أمره؛ يلهث وراء لقمة العيش، وأصبح الغلاء نارًا يكتوي بها الجميع، ولا يستطيع أن يكبح جماحَها أحدٌ.
وأقول: لهم أليس منكم رجل رشيد؟! رجلٌ يستطيع أن يجلس إلى هؤلاء الناس ليصغيَ إليهم ويضع حدًّا لمعاناتهم بدلاً من الاعتقالات؟! فأين يذهب هؤلاء الـ3500 عامل؟!".
المرض والاعتقال
وعاد زلط ليرويَ جانبًا من معاناته مع المرض طيلة العام ونصف العام الماضيين، وعلى الرغم مما سبَّبته له ضربات الجرس المتسارعة لحظة الاعتقال من آلامٍ جعلته ينتفض من النوم بشكل مفاجئٍ ليسارع بالتوجه إلى فتح الباب؛ مما أدى إلى إصابته بأزمة قلبية، إلا أنه يشكر الضابط الذي جاء ليسلبه حريته ويستبيح حرمة بيته!!.. يشكره لأنه أجاب طلبَه بأن يمهله حتى يقوم ببعض الإسعافات الأولية، كما أنه- أي الضابط- منع قوات الأمن من اقتحام المنزل حتى يهدأ الحاج زلط قليلاً، وسمح له بالجلوس وبتجهيز حقيبته والدواء الذي سيحتاجه.
وعن الأيام الأولى بعد الاعتقال، وقبل السماح له بالعلاج، يقول الحاج زلط: "تم اعتقالي بعد إخواني بـ3 أشهر.. كانت فترةً قاسيةً جدًّا في حياتي؛ فقد كنت أنتظر الاعتقال في أية لحظة، وقد تأخَّر اعتقالي لأنني كنت مقيمًا في محافظة الغربية ثم انتقلت إلى القاهرة، ولم يكن الأمن قد عرف محل إقامتي الجديد بعد، وعند وصولي إلى المزرعة استقبلني إخواني استقبالاً حافلاً أنساني كل ما لاقيته من معاناة وآلام وأنا انتظر البلاء".
عام ونصف العام في سجن المستشفى
ويتابع الحاج زلط: "وعند اعتقالي توجَّهنا إلى قسم الشرطة، ومنه إلى النيابة العسكرية، وفي الساعة 12:30 توجَّهت إلى سجن طرة، واستغرقت المسافة 6 ساعات، فوصلت وأنا في قمة الإرهاق والتعب، ثم فاجأتني أزمةٌ قلبيةٌ شديدةٌ جدًّا حتى أشرفتُ على الموت، فطالب الإخوة بنقلي إلى المستشفى بشكلٍ عاجلٍ، وقال طبيب السجن: "لا أستطيع تحمُّل مسئوليته"، فتم نقلي إلى العناية المركَّزة بعد 9 أيام من اعتقالي، ومكثت في سجن المستشفى حتى صدور حكم البراءة.
إلا أن المستشفى لم تختلف كثيرًا عن السجن؛ فالحراسة مشدَّدة، والزيارة ممنوعة، والعلاج لا يتجاوز بعض المسكِّنات".
وعن ذلك يقول الحاج زلط: "ازدادت حالتي سوءًا نفسيًّا وصحيًّا، وكان الأمن قد تحفَّظ على جميع أموالي، فتوسَّلتُ إليهم أن يتركوا لي جزءًا للعلاج، إلا أنهم رفضوا!!، فطالبت بعلاجي على نفقة الدولة، لكنهم أيضًا رفضوا".
وتابع زلط حديثه بمرارة قائلاً: "في كل جلسة كانت هيئة الدفاع تطالب بضرورة النظر في حالتي الصحية وإيجاد حلٍّ لهذه المشكلة، وفي كل جلسة كانوا يحصلون على وعودٍ بمخاطبة المجالس الطبية، إلا أن هذه الوعود لم تكن تتجاوز أفواه من نطقوا بها.
واستمر هذا الحال لمدة خمسة أشهر، حتى تدهورت حالتي كثيرًا، وتواصلت النوبات والأزمات القلبية، حتى وأنا نائم، وبدون أن أبذلَ أيَّ مجهودٍ؛ فلم أكن أستطيع أن أتحوَّل من جنب إلى آخر، فسارع إخواني- أكرمهم الله- إلى جمع المال اللازم لعلاجي، لكن الموافقة على نقلي إلى مستشفى آخر لأتلقى العلاج اللازم على نفقتي تأخَّرت كثيرًا، ولم أحصل عليها إلا قبل النطق بالحكم بخمسة عشر يومًا؛ مما جعلني أؤثر انتظار النطق بالحكم، فكان فرج الله أسرع".
لست مخرِّبًا
وعن وقع سماعِه خبرَ إحالة القضية إلى القضاء العسكري قال زلط: "أصبتُ بحالةٍ من الذهول، صاحبها شعور عميق بمرارة الظلم؛ فقد وجدت اسمي مدرجًا في قضيةٍ لا أعلم عنها شيئًا ولا تربطني بها أية علاقة نهائيًّا.. فما علاقتي أنا بالأموال حتى اتُّهم في قضية غسيل أموال؟!.. أنا موظَّف أعمل مدير مشتريات ومخازن، وأتقاضى راتبي مقابل ما أقوم به من عمل؛ فقد وجدت نفسي أُحاكَم على جريمةٍ لم أرتكبها، وذنبٍ لم اقترفْه؛ فكنت أنظر حولي فلا أرى إلا الظلم، وأتساءل: "أين سيادة القانون؟! وأين القضاء النزيه؟!" وأصرخ في داخلي: أنا لست مخرِّبًا، ولم أسعَ إلى التخريب، فلماذا أنا هنا؟! ولماذا الإخوان هناك؟! ولماذا مجرمو الدم الفاسد طلقاء؟!.
وهذه المحاكمات لا يمكن وصفُها سوى بأنها مهزلة.. ظلمٌ وقهرٌ وتحطيمٌ نفسي إلى أبعد الحدود؛ ليس فقط للمعتقلين، بل لأسرهم أيضًا؛ فالنظام لا يحفظ كرامة المواطنين، ولا يحترم حتى آدميتهم؛ فهل هناك نظام يعتقل أساتذة الجامعات ورجال الأعمال؟! هل هناك نظام يخسف بصفوة المجتمع وخيرة أبناء الوطن ويُهويهم إلى قاع السجون؟! لكني على الرغم من هذه الصدمة إلا أني كنت مسلِّمًا أمري كله لله، واثقًا من كرمه ولطفه.
الدعوة في عنبر المعتقلين
وعلى الرغم من الوحدة التي كان يعاني منها زلط بسبب وجوده في المستشفى بعيدًا عن إخوانه الذين وصفهم بأنهم "الهواء الذي يستنشقه"، فقد استطاع زلط أن يستغلَّ هذه الفرصة للقيام بالدعوة، وقد ساعده على ذلك- كما يقول- "النظافة التي أَمرَنا بها الإسلام"؛ مما جعل الحراس يتوجَّهون إليه لشرب الماء أو الشاي؛ حيث قال له أحدهم: "لا نستطيع أن نشرب شيئًا عند تجار المخدرات أو الجنائيين"، وقد فتحت له هذه الفرصة بابًا واسعًا للحديث مع الناس، فكانت- بالإضافة إلى ما يتمتع به الحاج زلط من لين الكلام وحبِّ الخير للجميع- سببًا في تعديل سلوك الكثيرين.
وهنا يوجِّه الحاج زلط كلمةً إلى المسئولين عن المستشفى قائلاً: "اتقوا الله في هذا المكان الذي لا يحظى بأدنى رعاية؛ فقد عشت في هذا المكان مرحلةَ ما قبل الموت، لكن غيري مات؛ فنحن ننتمي إلى هذا الشعب، ولنا حقوق وعلينا واجبات، ومن حقوقنا أن نتلقى العلاج اللازم.. أسأل الله العافية".
وعن أشدِّ ما عاناه زلط أثناء وجوده في المستشفى قال: "كنت كلما أتصوَّر ما تعانيه زوجتي وأولادي من شعورٍ بالقهر والعجز والإذلال عند زيارتي يزداد ألمي ويشتد مرضي، لكني كنت أقول لهم اصبروا واحتسبوا".
وعاد زلط يبثُّ كلماته إلينا قائلاً: "نحن كما نحن؛ لن نتغيَّر.. مبادئنا هي مبادئنا، الحب للجميع، ولا بد للسفينة أن تسير، ولن تتوقف؛ فهي منذ عهد المصطفى- صلى الله عليه وسلم- لم تتوقف، وسار الصحابة على نفس الدرب، ومن بعدهم التابعون، واستمرت الفتوحات، وكلٌّ يسلِّم الراية لمن يليه؛ فالجميع يعمل على قلب رجل واحد، وعندما تجمع الأمة كلها على قلب رجل واحد فسوف يتبدَّل حالنا إلى أفضل حال، لكن الجميع يريد أن يستأثر لنفسه وكأنه يقول "مصلحتي فقط، ولمن خلفي الطوفان"، والقادم إلى الأفضل بإذن الله؛ فنحن ثابتون على حب وطننا".
وتابع زلط حديثه قائلاً: "تعلَّمت من هذه التجربة معنى قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: من الآية 3)، وكذلك تعلَّمت الصبرَ على المحن؛ فالصبر أعظم النعم، أيضًا تعلمت أن أدعوَ للحاكم أن يهديَه الله ويصلح بطانته؛ فلا بد لليل أن ينتهيَ ولا يبقى من ذكرياته إلا الأجر الذي أحتسبه عند الله؛ فقد كنت في عبادةٍ وطاعةٍ، وقد قال الأئمة العظام من قبلي: السجن خلوة، والنفي سياحة، والموت شهادة، ونحن على دربهم"