أسدل القضاء المصري أخيراً الستار على قضيتي تجسس لصالح إسرائيل، بإصدار أحكامه الرادعة المستحقة ضد أعضاء الشبكتين اللتين ضمتا شابين مصريين يفترض فيهما أن يكونا من ذخيرة المستقبل. وإذا كانت الجاسوسية تشغل أدنى درجات هاوية الخروج على قواعد اللعب النظيف في الحياة السياسية المصرية، من قبل بعض الأفراد الضعاف النفوس، فإن هذا الخروج المرفوض شكلاً ومضموناً ليس سوى رد فعل انتحاري للخروج الرسمي على القواعد نفسها، والذي يتجلى في ممارسات مرفوضة بدورها شكلاً ومضموناً لعل أبرزها الآتي:
1- خروج مؤسسات الإعلام الرسمي في ما تؤديه من وظائف دعائية وتعبوية على قواعد الصداقة والعداوة وعلى قواعد أولوية السلامة وحتمية العدالة ومشروعية المصالح، بما أدى إليه ذلك من اختلال المفاهيم الضميرية والأخلاقية وتصدع المعايير الوطنية والقومية والدينية والإنسانية. إلى جانب هروب المؤسسات المذكورة من تأدية وظائفها الحقيقية في الدفاع عن بوابات الدولة والمجتمع، بما أدى إليه ذلك من إصابة الشخصية المصرية بالعديد من الشروخات والتصدعات في جهازها المناعي الطبيعي، الأمر الذي سمح لخريطة الطريق الأميركية بإشاعة الفوضى «الخلاقة» من خلال تفكيك الأسرة التي هي الوحدة الأساسية للمجتمع المصري والتي أصبحت تئن بفعل التفكيك «الأميركاني» تحت ضغوط الخيانة والعقوق والتشرد والطلاق وغيرها من الضغوط الطاردة للشباب خارج الأطر التنظيمية، ليندفعوا نحو فعل أي شيء مهما كان مشيناً مقابل أي شيء مهما كان تافهاً، ولصالح أي طرف مهما كان معادياً وضد أي طرف مهما كان مقدساً.
- خروج المؤسسات الحزبية الرسمية الحاكمة والمعارضة على قواعد الوحدة والصراع بشقها الداخلي الذي يعني أن مصارعة الخصم حول قضية خلافية بعينها لا تمنع الاتحاد معه في القضايا الأخرى محل الاتفاق المشترك وبشقها الخارجي الذي يعني أن مصارعة مختلف الأطراف الداخلية لبعضها البعض حول القضايا الخلافية مهما زاد عددها تزول بمجرد تعرض الوطن لخطر خارجي حقيقي إذ يتحد الجميع كالبنيان المرصوص في مواجهته.
فعلى سبيل المثال إذا كان الليبراليون يعارضون اليساريين بسبب تقييدهم للحرية الاقتصادية فإنهم يتحالفون معهم في معارضة مشتركة للحكم بسبب مواقفه الأكثر سلبية على نطاقات أوسع تشمل استشراء الفساد وغياب العدالة الإجتماعية وتراجع الحريات السياسية والإقتصادية. وفي الوقت نفسه فإن الليبراليين واليساريين يتحدون مع الحكم على أرضية التصدي المشترك لأطماع بعض الدول الاستعمارية العظمى المعادية للمصالح الوطنية والقومية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وهي نفسها الدولة التي قد يتحالف معها نظام الحكم المصري جنباً إلى جنب الليبراليين واليساريين المصريين في الصراع الإنساني المشترك ضد الأخطار التي تهدد الكرة الأرضية وعموم الجنس البشري كالأوبئة والأمراض وتلوث البيئة والمتغيرات المناخية الضارة وما شابه.
ومن أبرز أمثلة الخروج على قواعد الوحدة والصراع في هذا الصدد قبول بعض فصائل المعارضة لأن يتم استخدامها من قبل الحكم ضد فصائل أخرى في المعارضة المصرية وقبول بعض فصائل المعارضة والحكم معاً لأن يتم استخدامهم ضد بعضهم البعض ليس في سياق الخصومة السياسية الطبيعية ولكن في سياق «الأُندات» السياسية للدول الاستعمارية العظمى المعادية للمصالح الوطنية والقومية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
3- خروج مؤسسات القوة الرسمية على قواعد احترام حقوق الخصم في الحياة وفي السلامة وفي عدالة معاملاته وفي تلبية مصالحه المشروعة حتى أثناء مصارعته واختصامه. فعلى سبيل المثال إذا كان ما ارتكبه بعض المعارضين أمثال عبود الزمر وأيمن نور وطلعت السادات ومرتضى منصور وخيرت الشاطر وغيرهم من أفعال تتسم بالشطط الذي قد يحظى ببعض التحفظات المجتمعية فإن ما تمارسه مؤسسات القوة الرسمية ضدهم من عنف انتقامي مفرط بهدف تصفيتهم حتى آخر قطرة من دمائهم على ذمة أفعالهم التي تندرج تحت بند الخصومة السياسية في ظل صمت تآمري من قبل بقية الدوائر الرسمية وتجاهل عمدي من قبل معظم الدوائر المجتمعية، يعتبر خروجاً صارخاً على قواعد اللعب النظيف.
ذلك أن هذا الدم الجاري تصفيته هو دم مصري طاهر يظل أصحابه جزءاً لا يتجزأ من فسيفساء اللوحة الفنية العبقرية للوطن المصري العظيم بصرف النظر عن ما ارتكبوه من شطط في الخصومة السياسية، علماً بأن أسلوب تصفية الخصم حتى آخر قطرة من دمه يؤثر بشكل مباشر ليس فقط على شخص هذا الخصم ولكن أيضاً على أسرته وعائلته وجيرانه وأصدقائه وأنصاره ومعارفه أي على دائرة واسعة من المصريين إذ يخلق في الذهن المجتمعي العام انطباعات سلبية مدمرة عن المستقبل تفتح الأبواب لخروج الأفراد بدورهم ليس فقط على قواعد اللعب النظيف في الحياة السياسية ولكن على المجتمع كله سواء توقف هذا الخروج عند درجات مختلفة من سلم الهاوية أو بلغ أدنى درجات قاع الهاوية المتمثل في الجاسوسية.
وأخيراً، فإن الوحدة الوطنية الحقيقية هي المانع الطبيعي للخروج على المجتمع وهي لا تتحقق إلا بمقدار ارتفاع مستوى الأداء السياسي لمختلف أطراف الحياة العامة في الحكم والمعارضة والذي يقاس بمدى التزام هؤلاء وأولئك بقواعد اللعب النظيف، لا سيما في المخاصمات السياسية التي هي الوجه الآخر للتحالفات السياسية. وإذا كان تحقيق الوحدة الوطنية يتطلب التزام الجميع بميثاق الشرف الضمني الذي ينطوي على قواعد اللعب النظيف فإن استمرار الخروج الرسمي على هذه القواعد يوفر المزيد من الأجواء السلبية المواتية موضوعياً لاندفاع المزيد من الأفراد نحو الخروج الانتحاري على المجتمع في كافة أشكاله بما في ذلك الجاسوسية، فلا يلومن اللائم إلا نفسه.
كاتب مصري.
0 التعليقات :
Subscribe to:
Post Comments (Atom)