محاكمات الإخوان وغيرهم من السياسيين
القضاء الطبيعي والعدالة الجنائية المعاصرة
من التقاليد الدستورية والقانونية والحديثة والمعاصرة أن المواطن له الحق في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي سواء برفع الدعاوي غير المباشرة التي ترتبط بالدعاوى الجنائية التي تختص بها النيابة العامة أو أن يحاكم أمام القضاء الجنائي العادي، وليس أمام جهات القضاء الاستثنائي على اختلافها.
إن إحالة بعض المتهمين إلى القضاء الاستثنائي محاكم أمن الدولة والقضاء العسكري، في بعض القضايا السياسية، كان ولا يزال يشكل أحد انتقادات الفقه الدستوري والجنائي والمرافعات وذلك بحكم التخصص واتصال غالبية الفقهاء بالأبعاد الفنية والفقهية والموضوعية التي تتفرع عن مسألة إحالة رئيس الجمهورية أو النيابة العامة لبعض القضايا إلى الجهات القضائية الاستثنائية إن الخطاب القانوني الفقهي النقدي لم يأت هكذا عفو الخاطر، وإنما ارتبط أساسا بمسألة التقاليد القانونية الحداثية والمعاصرة في تنظيم وترتيب الجهات والمؤسسات القضائية على اختلافها في إطار الدولة الحديثة إن إحالة المواطن إلى قاضيه الطبيعي هي إحدى نتائج تنظيم السلطات العامة في الدولة الحديثة، وتمايزها الوظيفي بين الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية وضرورة أن تكون العلاقة المتبادلة بينهم في إطار الفصل بين السلطات سواء كان فصلا مرنا ونسبيا كما في الأنظمة البرلمانية، أو فصلا جامدا، مع بعض التعاون في إطاره في الأنظمة الرئاسية أو الصيغ "البرلماسية" الوسيطة بين البرلمانية والرئاسية كما في حالة النظام الفرنسي أو النظام الدستوري المصري طيلة نظام يوليو وحتى دستور 1971 وتعديلاته على اختلافها.
إن استقلال السلطات القضائية والقضاء عن السلطات الأخرى في أداء الوظائف المنوطة بها، وعلى رأسها الفصل في المنازعات القانونية بين الأفراد وبعضهم بعضا، وبينهم وبين الدولة وبين الهيئات العامة وبعضها بعضا سواء مباشرة أو اللجوء إلى التحكم أو في حسم النزاعات بين الدولة وشركات القطاع الخاص... الخ رن ظاهرة اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية تعد جزءا من طبيعة الدولة التسلطية التي تأسست وسادت في دول جنوب العالم في أعقاب الاستقلال أو جاءت عبر الانقلابات العسكرية والثورات، وكانت السلطة القضائية أحد أبرز محاور الحصار السلطوي وتعبيرا عن تصورات سياسية وعسكرية سادت لدى غالب أباء حركة الاستقلال أو ما بعد من الانقلابيين أو الثوريين والتي ذهبت إلى أن سلطتي التشريع والقضاء هما أداتان بأيدي السلطة التنفيذية والحاكم أساسا لتحقيق مشروعه السياسي في الهيمنة على جميع المؤسسات السياسية والدستورية والفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة.
إن النظرة الأداتية للتشريع والقضاء كانت جزءا من ظاهرة سياسية أقرب إلى سلطة الإدارة أو الحكم الإداري التي لا تأبه كثيرا بالاعتبارات والمعايير والقيم الدستورية والقانونية في صناعة التشريع أو القواعد المنظمة للعدالة القانونية والجنائية الحديثة والمعاصرة إن ظاهرة إحالة متهمين في قضايا سياسية أيا كان انتماءهم السياسي والديني إخوان مسلمين وشيوعيين وليبراليين وقوميين.. الخ . هي تعبير عن ظاهرة عامة وسمت النظام السياسي المصري في المراحل التأسيسية لسلطة ثورة يوليو، وهي دمج السلطات في إطار السلطة التنفيذية وعلى قمة هرمها رئيس الجمهورية أيا كان شخصه.
ترتب على ذلك أن طبيعة توجهات ورؤى وانحيازات رئيس الجمهورية وبعض محاور القوة حوله، هي التي تصوغ نسبيا ومع أطراف أخرى طبيعية السياسة التشريعية وإنحايزتها الاجتماعية، والقيم الدستورية والقانونية والسياسية والمصالح التي تنتصر لها في صراعات المصالح والمراكز القانونية في المجتمع والدولة.
وترتب على هذا الاتجاه إذا كانت القيادة السياسية تنحاز لبعض شرائح الطبقة الوسطى والأغلبية الشعبية كانت التشريعات جزءا تنظيميا وحمائيا للسياسات الاجتماعية وللفئات الاجتماعية المستفيدة منها، عندما تغيرت توجهات القيادة السياسية المصرية من المشروع العام إلى المشروع الخاص والسوق الرأسمالي كانت التشريعات والسياسات والقرارات الوزارية والإدارية قد انحازت لمصالح رجال الأعمال، والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، وتحول التشريع إلى أداة من أدوات فرض التغيير الاجتماعي نحو الرأسمالية والسوق المتوحشة، بل وإضعاف الضمانات الاجتماعية، فضلا عن استمرارية انتهاك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وضعف وإذاعات القانون الردعية والمنعية لصالح قانون الأعراف والرشوة والاختلاس وغيرها من الجرائم.
إن ظاهرة القضاء الاستثنائي هي أحد أبرز نتائج الدولة التسلطية التي أراد مؤسسوها أن تكون جميع السلطات ومفاهيم العدالة الجنائية وضماناتها تحت سيطرة السلطة التنفيذية، من هنا كان نقد أشكال تدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية والتشريعية موضوعا للنقد الفقهي والسياسي الهامس حينا في المرحلة الناصرية، وجهرا في عهد الرئيس السادات ونقدا موضوعيا ودستوريا وقانونيا وسياسيا جهيرا وصاخبا في عهد الرئيس حسني مبارك لأن غالب الفقهاء والقضاة والسياسيين اعتبروا أن استقلال القضاء والقضاة جزءا لا يتجزأ من أي مشروع جاد للإصلاح السياسي، من هنا تبدو موضوعية وإصلاحية جميع المطالبات الفقهية الدستورية والقانونية والحزبية بضرورة استقلال السلطة القضائية ومعها محاكمة المواطنين أمام قاضيهم الطبيعي لا الاستثنائي إن أعمال مبدأ محاكمة المواطن أمام قاضيه الطبيعي أو لجوئه إليه ليس القصد منه المساس بسلطان القضاء العسكري واختصاصه بنظر المناعات ذات الطبيعة العسكرية، ذلك أمر لا يحتاج إلى جدل كبير على نحو ما استقرت عليه الأنظمة القضائية العسكرية المقارنة!
إن إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري في إطار القضايا العسكرية لا جناح عليه، ويدخل ضمن إطاره، خاصة في ظل بعض الضمانات الجديدة التي وردت في التعديلات الدستورية والقانونية الجديدة إن المطالبة بإحالة المواطنين إلى قاضيهم الطبيعي لا يعني أيضا المساس بالمكانة السامية ورفيعة المقام لمؤسستنا العسكرية الوطنية، وتاريخها المجيد في حماية الوطن والأمة والدولة الحديثة.
ثمة قضاء استثنائي آخر، كقضاء، محاكم أمن الدولة في ظل استمرار تطبيق قانون الطوارئ وما سوف يأتي به قانون مكافحة الإرهاب، خاصة في ظل التعديلات الدستورية التي أباحت للمشروع أن يمس قانون الإرهاب، المزمع تمريره من البرلمان في الشهور القادمة، بعض الحريات العامة والشخصية كسرية المراسلات وحرمة المسكن... الخ أن التعديلات الجديدة وما يترتب عليها تعكس تراجعا عن الإصلاح الدستوري والسياسي والقانوني في بلادنا، من هنا يبدو لجوء الحكم إلى إحالة بعض قادة وكوادر جماعة الإخوان إلى القضاء العسكري، مع كل الاحترام له ولقضائه وللمؤسسة العسكرية المصرية الوطنية أمر يمس المبدأ الركين في أصول المحاكمات الجنائية المعاصرة بضرورة إحالة هؤلاء إلى قاضيهم الطبيعي، وهذا الرأي لا علاقة له ببعض قادة وكوادر جماعة الإخوان، وإنما رأي دائم لنا إزاء أي محاكمات للمدنين أمام جهات قضائية استثنائية تختلف مثلا مع جماعة الإخوان.
وبرامجها وسياساتها وآراء بعض قادتها هذا شيء وإعمال القواعد الدستورية المقارنة شيء أخر تماما، إن رهاب-فوبيه جماعة الإخوان وأمثلة الدولة الفاشلة تحت رايات الحكم الديني، طالبان والإنقاذ وصراعات حماس وفتح.. الخ وانتهاكات الحريات الشخصية والعامة وأساليب القمع باسم الأيدلوجية الدينية الوضعية حول الإسلام العظيم المبادئ والقيم والمعايير العادلة والمتسامحة ... الخ شيء آخر.
نختلف مع الإخوان في الأيدلوجية والفكر والجماعة والبرنامج، وهذا حق لنا وللآخرين، ولكن الدولة الحديثة يقتضي الاعتصام بقيم الحداثة الدستورية والقانونية المعاصرة لا التنكب لها، بل إن احترامها لاسيما أعمال مبدأ التحاكم أمام القضاء الطبيعي، هو محك لمصداقية الالتزام بقيم الدولة الحديثة والحداثة السياسية والقانونية إزاء بعض منتقديها من حق الجميع أيا كانت اهتماماتهم و ولواءاتهم الأيدلوجية باسم التأويل السياسي الوضعي المدين أن يحاكموا أمام قاضيهم الطبيعي مثلهم مثل غيرهم من الجماعات السياسية والأيدلوجية الأخرى.
ثمة حاجة موضوعية لبناء رضاء عام وطني حول الدولة الحديثة، والحريات العامة والشخصية وفصل السلطات والقوانين المدنية و الاستقلال الكامل والناجز للقضاء والقضاة من ثم ضرورة إعمال مبدأ القضاء الطبيعي مدخلا لاستقلال القضاء المصري وقضاته بوصفهم طلائع حركة الإصلاح والتجديد للدولة "الأمة" تاريخيا، وجزءا رائدا في حركة المطالبة بالإصلاح الدستوري والقانوني والاجتماعي والديني في مصر الآن!
Labels: تقارير