مدونات ضد المحاكمات : الحرية لمدحت الحداد | الحرية لعصام حشيش | الحرية للدكتور بشر | الحرية لضياء فرحات | الحرية لخيرت الشاطر | الحرية لحسن مالك

لقد خلق الله سبحانه وتعالى البشر، وجعل لكل واحد مميِّزات وصفات تجعله مختلفًا عن غيره، فلا تكاد تجد فردَين متطابقَين تمامًا في طباعهما وأسلوب معيشتهما؛ وذلك للاختلاف في الموروثات التي تحدد خصائص الإنسان النفسية، والبدنية من فردٍ لآخر.

ويأتي اختلاف الثقافات بين الأفراد عاملاً آخر ليجعل لكل فردٍ طبعَه وتفكيرَه الذي يميِّزه عن غيره، فإذا اختلفت البيئة التي ينشأ فيها الأفراد، واختلفت أيضًا الأعمار فالتباين في الطباع والسلوك يكون على أشدِّه.

وقد تتباين مجموعة ما في موروثاتها وثقافتها وبيئاتها وأعمارها، ولكن يكون اجتماعهم لساعات معدودة على فترات متباعدة أو متقاربة، فلا تجد لاختلاف طباعهم أثرًا في علاقتهم، ولكن إذا عاشوا مع بعضهم أيامًا أو أسابيع فسرعان ما يؤدي تباين الطباع إلى مشاكل لا حصر لها!!.

وحتى في العلاقات الزوجية، فإن الخبراء يقولون إن أول عام من الزواج تكون فيه بعض المشاكل؛ لاختلاف طبعَي الزوجين عن بعضهما.

ولكن إذا وجدت مجموعةً من الناس مختلفي الثقافات والأعمار والبيئات، ويعيشون مع بعضهم أيامًا بل شهورًا عديدةً، ويكون مكان إقامتهم ليس متنزهًا أو مصيفًا، بل سجنًا يُظلمون فيه ويُحرمون أبسط حقوقهم، وهم الكرام في أهلهم؛ فإن هذه المجموعة بمنطق العقل، وخبرة الحياة حتمًا ستحدث بينهم من المشاكل، وتظهر بينهم من السلبيات ما يفوق الحصر.

ولكن أن تجد هذه المجموعة على ما هي فيه كما ذُكرت؛ يعيشون حياةً هادئةً يملؤها الحب، ويرفرف عليها التفاهم، ويسلس انقياد بعضهم لبعض؛ فلا تكاد تحدث مشكلة، ولا يعكِّر صفوَ العلاقات الراقية عكرُ الخلافات الطارئة!!.

حين تجد ذلك لا بد أن تفكِّر مليًّا وتسأل نفسك: من هؤلاء ولماذا هم كذلك؟!.

والمحالون للمحكمة العسكرية هم مثالٌ لهذا النموذج الراقي؛ فهم ينتمون إلى بيئات مختلفة: بحري وقبلي، قروي ومدني، وأعمار مختلفة دون الأربعين حتى فوق الستين، وشهادات علمية مختلفة ومستويات اقتصادية متعددة، ومهن متباينة، ويعيشون تحت ظروف تدفع للتوتر، وتزرع الضيق في الأنفس، ومع ذلك تجدهم- ومع مرور عام على هذا الحال- لا تزيدهم الأيام إلا ألفةً، ويدفعهم ما يتعرَّضون له من ظلم إلى أن يصفح بعضهم عن بعض، ويرحم بعضهم بعضًا!!.

تجد أرواحًا متآلفةً، وقلوبًا متآخيةً، وأنفسًا مؤْثرةً، وأخلاقًا هي المكارم بعينها؛ ينطبق عليهم قول الشعر:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق

فقد اتسعت أخلاقهم حتى جاوزت ضيق السجن، وضجر الظلم، ولا عجب في ذلك؛ فإن يد الله هي التي تزرع في هذه القلوب معانيَ الأخوة، فنبتت مظاهر الألفة، فتثمر علاقات السعادة ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 63).

وقد يتبادر أيضًا للذهن أن هذه المجموعة قد اتفقت في طباعها، وتوحَّدت في مشاربها؛ لذلك لم يحدث بينهم خلافٌ أو اختلافاتُ، ولكنهم ليسوا كذلك.. إنهم أيضًا مختلفو الطباع والمشارب، ولكنه الاختلاف الذي يؤدي إلى التكافل، وهو التنوع الذي يثري الحياة.

وقد تجاوزت هذه الألفة أشخاصهم إلى أسرهم؛ فقد أحسَّت أسرهم أنهم أصحاب هدف واحد وأمل واحد، وقد ظهر ذلك على الأبناء، فاكتُشفت مواهبهم، ونمت قدراتهم، وصَلُح حالهم.

ولا أقول إنهم ملائكة لا يخطئون، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن حسن النية، والرغبة في الثواب جعل التغافر بينهم أكثر من العتاب، والصفح أعمَّ من العقاب، وكل واحد منهم إن وجد في نفسه خصلة من السوء اجتهد أن يتخلَّص منها، وإن وجد خصلة من الخير في أخيه اجتهد أن يتعلَّمها منه، وهذا مصداق حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرًا"، والحديث القائل "المؤمن للمؤمن كاليدين؛ تغسل إحداهما الأخرى"، فكان تعايش هذه المجموعات مع بعضها كله إفادةً وخيرًا ونفيًا للشر.

وإني أمثِّلهم ببستان عظيم تدخل إليه فينشرح صدرك، ويبهجك جمال ورده وحسن أزهاره.
ورغم أن البستان كله يعجبك إلا أنك إذا اقتربت من كل زهرة على حدة فستجد لها لونًا يميزها وشذا يخصُّها وجمالاً تتفرد به عن زميلاتها.

وهكذا من عاشرتهم عامًا كاملاً في السجن في هذه المحاكمة العسكرية المثيرة للجدل.. كل واحد منهم زهرة نسيج وحدها منفردة بمميزاتها، زهرة تبعث الراحة إلى النفس وتألف العين رؤيتها، كل واحد من هؤلاء الذين أراد لهم النظام البائس أن يعاقبهم بحبسهم، ولكن أراد الله أن يكونوا في محبسهم كباقة زهور في بستان، وأصبح كل منهم زهرةً في هذه الباقة؛ تشم منها أطيب ريح "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير".

وأجدني مدفوعًا من حبي لهم وتقديري لأخلاقهم أن أقترب كل يوم من زهرةٍ من هذا البستان لأحدثكم عن أجمل ما فيها، وما يميزها عن غيرها وما تفيض به على من حولها لتشمُّوا معي عبيرَ هذه الزهور، فتسعدوا كما سعدت معهم.

وكذلك أقصد بحديثي عن هؤلاء الذين عايشتهم أن أقدم نماذج مشرِّفةً لأجيالنا الصاعدة؛ حتى يعلموا أن رجال الحق موصولون ومتواصلون، وأنه في كل زمن توجد طائفة بالحق مستمسكة، وله ناصرة حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، ومع لقاء قادم أحدثكم عن أول زهرة رأيتها....

المهندس محمد خيرت الشاطر

قابلته قليلاً قبل أن أرافقه في هذا السجن وفي هذه المحاكمة، ولا أخفيكم أنه كلما طالت أيام السجن كلما ازددت له حبًّا له وإعجابًا به.. إنه المهندس محمد خيرت الشاطر والمدَّعى عليه الأول في هذه المحاكمة الظالمة.

والمهندس محمد خيرت الشاطر قد أتاه الله بسطةً في العلم والجسم، وكذلك بسطةً في المال والعيال.
وقد أورد العقَّاد في كتابه "عبقرية عمر" أن هناك مدرسةً علميةً تقول إن العباقرة غالبًا ما يتميزون بصفات جسمانية مميزة؛ منها أن يكون العبقري طويلاً بيِّن الطول، أو قصيرًا بيِّن القصر، فلما رأيت م. خيرت وهو بيِّنُ الطول ورأيت فيه العبقرية بعينها أيقنت أن ما نقله العقاد صوابٌ إلى حد كبير، وأن هذا الرجل إنما اصطفاه الله لما أودعه فيه من عبقرية قلَّما تجدها بين البشر.

وعبقرية المهندس خيرت يلمسها كل من يحادثه أو يناقشه؛ فهو يتميَّز بعقليةٍ مرتَّبةٍ ومنظَّمةٍ إلى حد كبير؛ فإذا تناولت معه موضوعًا عامًّا أو خاصًّا تجده يرتِّب لك الأحداث والأفكار والاستدلالات بتلقائيةٍ، حتى إنك تظنُّ أنه قد جلس ساعاتٍ طوالاً يتدارس ما سيقوله، ومع تكرار الأحاديث، وتنوعها تتأكد أن الأمر ليس مدارسةً بل هي سليقة أودعها الله إياه.

وقد حباه الله أيضًا ذاكرةً حادَّةً- أسأل الله أن يحفظها له- فدقائق الأمور فضلاً عن كبارها تجده يذكرها لك حتى ولو بعد عدة أعوام، ولعل تنوع معلوماته، وكثرة معارفه وعِظَم قراءته وعمق تحليلاته للأحداث، والأمور تضيف إليك جانبًا من جوانب التقدير لهذا الأخ الكريم.

والمهندس خيرت ابن الحاج سعد الشاطر- رحمه الله- وهو من تجَّار الدقهلية المشهورين، وقد ورث عن أبيه براعة التجارة، وورث أيضًا مالاً يتاجر به؛ ولذلك هو رجل أعمال ناجح فتح الله عليه مشاريع عديدة أقامها بحرِّ ماله، وكانت سببًا في فتح أبواب العمل لكثيرٍ من الشباب.

أما أسرته فإنك تشعر أنها أسرةٌ مجاهدةٌ حقًّا، سواءٌ الأم أو بناته الثمانية، أو ولداه، وهما أصغر أبنائه؛ فكلهم يحملون رسالةً ويؤدون أمانةً، ويقفون وراء أبيهم يشدُّون من أزره.

ولعل أهم ما يميز المهندس خيرت هو روح الأبوة التي تملأ قلبه؛ فهو يستشعر مسئوليته نحو الجميع، ويتتبَّع أحوالهم، ويؤثرهم على نفسه، ويراعي أدقَّ المشاعر لأصغر المتواجدين معه.
تجده- رغم كثرتنا- يعرف أبناء كل واحدٍ منَّا، بل أحفاده إن وجدوا، ويسأل عنهم فردًا فردًا، ويعرف بدقة ملاحظته تواصلَ كل فرد مع أهله في الزيارات!!.

رأيته يعاتب أخًا لنا ظلَّ يكتب خطابًا أثناء زيارة ابنته له قائلاً: "إن وقت الزيارة أولى به ابنتك"، وكان في عتابه رقيقًا مهذَّبًا؛ تجده يتصابى لأطفالنا وكأنه منهم، ويتعانق مع أبنائنا الكبار وكأنه أبوهم.

ورغم ما تعرَّض له المهندس خيرت من مصادرةٍ للأموال وسجنٍ لفترات طويلةٍ تعدَّت ثمانيَ سنوات منذ عام 91 حتى الآن، ورغم ما يُشاع عن أنه المقصود الأول في هذه المحاكمة، إلا أن سَمَره مع إخوانه ومحاولته التخفيف عنهم والضحك معهم سمته دائمًا.

يجلس أحيانًا في طرقة العنبر ليجالسه من أراد، فتجد مجلسه هو مجلس الحب والسمر واللطف والتلطف، ثم هو معاني الإيمان بالله والتسليم لقضائه وقدره، ولعل ما يحببك في المهندس خيرت هو تواضعه الشديد ورغبته في عدم التميُّز عمن حوله.

أذكر أننا اجتمعنا تطوعيًّا لتنظيف مكان في فناء السجن مليءٍ بالأحجار؛ حتى يكون مكانًا لجلوسنا، فوجدناه وسطنا يحمل الأحجار، فلما طلبنا منه الراحة أصرَّ على أن يحمل معنا الأحجار رغم مرضه آنذاك.

وهو شاعر يحب الشعر، ويقرضه، كتب قصيدةً في عقد ابنته- والذي عُقد في السجن- جمع فيها جميع أسماء أبناء وأحفاد المحالين للمحكمة العسكرية.

ومن الأحداث التي تجعلك توقن أن قلب هذا الرجل يحمل إيمانًا عظيمًا بالله- سبحانه وتعالى- وتسليمًا لقدره، هو حينما جاءه خبر مرض زوجته، وقد كان مرضًا غامضًا؛ فقد أصيبت بغيبوبة، وكان الأمر صعبًا علينا، فما بالكم به؟!.. لقد فقد الرجل حريته وماله، ثم ها هو قد يفقد أنيسته وشقيقة روحه.

ولكن أشُهد الله أنه ما خرجت منه كلمة شكوى ولا علامة ضجر، بل كان الدعاء والصبر حتى أزاح الله الغمة وشفاها بآية من عنده، وحار الأطباء في سبب الشفاء، كما احتاروا في سبب المرض!!.
وقد دار بيني وبين آخرين معي حديثٌ بل أحاديث تطرَّقنا فيها عن المهندس خيرت الشاطر، فما وجدت من الجميع نحوه إلا إجماعًا على حبه وتقديره، وما لمسته أنا من برِّه وتواضعه وصبره وثباته أحسَّ به الجميع، فاستحق أن يتربَّع على عرش قلوبهم محبةً واحترامًا.

وقد كان دائمًا يجول بخاطري: "ما حال الدعوة إذا ذهب عنها مؤسسوها الأوائل الذين عاشروا الإمام الشهيد حسن البنا وتربَّوا في أتون محنة سجون عبد الناصر؟!.. كان السؤال دائمًا ملحًّا على ذهني.. هل ستفرز هذه الدعوة أمثال هؤلاء يقودونها إلى بر الأمان؟!.

وكانت الإجابة عن هذا السؤال حينما عاشرت المهندس خيرت الشاطر، وعلمت أن الله يختار قادةَ دعوته، وأن هذه الدعوة ولاَّدة برجال أطهار أمثال المهندس خيرت الشاطر وغيره.

وإنني أسأل نفسي دائمًا: لماذا يضطهد نظامنا الفاشل أبناء الوطن المخلصين؟! لماذا مثل هذا الرجل يوضع في السجن؟! ولو استفادت الأمة من جهده وعلمه وعقله لكان الخير كل الخير.. هل مثل المهندس خيرت يكون مكانه السجن؟!.

ولكن أرجع إلى نفسي، وأقول إن الله أدخل يوسف السجن ليكون بعدها الحفيظ الأمين الذي ينقذ مصر، فهل يا تُرى يتكرَّر الأمر مع المهندس خيرت الشاطر؟! أسأل الله أن يكون ذلك.

0 التعليقات :

أضف تعليقك