الموت كالحبس يأتي بغتة!
ربما يعجب البعض من تشبيه الموت بالحبس وليس العكس، كان يمكن أن نشبه الحبس بالموت إذا كان الحبس أمرًا طارئًا عارضًا في حياة الناس، أما والحبس أصبح سنَّةً جاريةً لا مهرب منها لكل من قال: ربي الله، بصوت عالٍ، أو عبَّر عن انتمائه للإسلام بأي مظهر وصورة علنية، بغض النظر إن كان تغييره سليمًا أو غير سليم.. هنا أصبح حادث القبض والحبس هو السنَّة الأكثر شيوعًا في حياة الناس من الموت ومن غيره من سنن الله الجارية في حياة الخلق في مصر المحروسة.
عدت إلى البيت بعد يوم عمل شاق أعقبه قضاء بعض المصالح الخاصة وإنجاز بعض المهام الملحة وقد أنهكني التعب، فأسلمت نفسي للنوم طلبًا للراحة، دون أن أوقظ زوجتي أو أحدًا من أولادي؛ على أمل أن ألقاهم صباحًا فأطمئن على أحوالهم وأجاذبهم أطراف الحديث، نمت وأنا عازم في اليوم التالي أن أنجز المهام التي لم أستطع القيام بها، بالإضافة إلى الوفاء بمواعيد اليوم التالي، التي قد حدَّدتها سلفًا مع بعض من أتعامل معهم ومع بعض الأقارب، وهكذا فجدول المواعيد دائمًا مكدَّس، والمصالح المشتركة مع الآخرين دائمًا متزاحمة، فالواجبات أكثر من الأوقات كما يقول الإمام البنا رحمه الله..
نمت تلك الليلة وأنا عازم على إنجاز ما أستطيع من هذه الواجبات في اليوم التالي، ولكن زوَّار الفجر حالوا دون كل ذلك؛ ففي الثالثة قبل فجر تلك الليلة كان قرع الباب مزعجًا ودقات الجرس متلاحقة!.
وفي لحظات كان هؤلاء الزبانية يملئون المكان، ويفتشون في كل زاوية ظاهرة وباطنة في البيت، ثم كانت غيبة عن البيت والزوجة والأولاد والمصالح والعلاقات والمواعيد والأعمال، فالغيبة طالت حتى بلغت أربعة عشر شهرًا، ولا أحد يدري إلا الله متى ستنتهي!!.
في السجن وفي لحظة صفاء مع النفس استرجعت هذا الشريط مرةً أخرى، فسألت نفسي أليس الموت يأتي هكذا فجأةً دون مقدِّمات في غالب الأحوال كما جاء القبض والحبس؟!
أليس الموت يغيب الإنسان فجأةً عن أهله وأولاده وأمواله وأصحابه وعلاقاته ومواعيده وارتباطاته فتسير الحياة في غير الاتجاه الذي رسمه لها، ويعاد ترتيب الأمور كلها على خلاف ما كان ينشد؟!
ثم قلت لنفسي الحمد لله، إنه الحبس وليس الموت، ففي الحبس يستطيع الإنسان بمعاونة مَن بالخارج تدارك كثير من الأمور وإصلاح ما أفسدته الأيدي الآثمة، والاعتذار عن خُلف المواعيد أو الارتباطات، ومتابعة أحوال الزوجة والأولاد وتوجيههم فيما يعترضهم من مشكلات.. ويستطيع التفويض والإنابة في كثير من الأعمال.
ولكن إذا كان الموت فلا شيء من ذلك كله، بل الانقطاع التام عن كل شيء، فيا نفس هلا استعددت لذلك اليوم، فأحسني ولا تسيئي، وتعلَّقي بالسماء وليس بأوحال الأرض، واعلمي أن الموت يأتي فجأة كما يأتي الحبس فجأة.
وقلت لها إن الحبس يؤمل أن يعود بالخير على أهله، فيصلح ما كان فاسدًا، ويحسن ما كان سيئًا، أما الميت فإن قال ﴿.... رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (المؤمنون)، قيل له: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾ (المؤمنون)، فالمرء في الحبس قد يتدارك تقصيره في عبادته وآرائه ومراجعة ما حفظ من القرآن وإضافة الجديد إليها.. إجمالاً يستطيع أن يستزيد من العمل الصالح.
بينما الميت ينقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث كما ورد بالحديث الصحيح؛ فإن كان محسنًا في أعماله فالجنة في البرزخ ويوم البعث، وإن كان غير ذلك فحفر النيران والعياذ بالله في كلتا الدارين.
فالحمد لله أنني مقبوض عليَّ ولستُ مقبوضًا، وأرجو أن أعمل صالحًا فيما بقي من العمر، والله المستعان.
Labels: مشاعر