- لجنة السياسات أصدرت الأحكام ورئيس المحكمة لم يقتنع بالاتهامات الموجهة
- أُصبت بالإحباط ولم أحزن في حياتي مثلما حزنتُ يوم الحصول على البراءة
- رفضتُ في البداية المثول أمام القاضي لعدم وجود ضماناتٍ حقيقيةٍ للمحكمة
حوار: أحمد علي
أحمد النحاس أحد رجال الأعمال المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأحد قيادات الجماعة بالإسكندرية، حصل على حكمٍ بالبراءة في القضية العسكرية المُلفَّقة لقيادات الإخوان المسلمين بعد اعتقالٍ استمرَّ سنةً وخمسة أشهر، وكان أحد الرافضين المثول أمام المحكمة العسكرية، فمن رحلة الاعتقال إلى البراءة، وأهم الدروس المستفادة كان هذا الحوار.
* في البداية صِف لنا عملية القبض عليك والوقائع التي حدثت؟
** بدايةً عملية القبض كانت غريبةً؛ فأنا من القلائل الذين تم القبض عليهم في وضح النهار بمعرفة حملتين لأجهزة الأمن؛ الحملة الأولى توجهت إلى مكتبي أثناء وجودي به وقامت بتفتيش المكتب بالكامل، وبعدها فوجئتُ بالضابط يسألني عن مكتب شركة "زيزينا للسياحة"؛ فأكدتُ له أنَّ هذا مكتب خاص بي، وقدمتُ له الأوراق التي تُثبت ذلك، فقام بالاستيلاء عليها وقام بالاستيلاء على جهاز الكمبيوتر ومبالغ مالية كانت في خزينة الشركة، وفي نفس التوقيت تقريبًا كانت هناك حملة أخرى هاجمت المنزل وقامت بتفتيشه بطريقةٍ متعسفةٍ جدًّا، واستولوا على أجهزة الكمبيوتر وبعض الكتب الدينية والهندسية والعقود الشخصية، ولم يكن هناك أية أوراق خاصة بالإخوان، ثم تم ترحيلي إلى نيابة أمن الدولة بالقاهرة، وبعدها استمرَّت المحاكمة!!.
* كيف مرت تلك اللحظات عليك وعلى أسرتك؟
** بفضل الله أنزل الله عليَّ وعلى أسرتي السكينة والاطمئنان، وفوَّضنا أمرنا إلى الله، خاصةً أن هذه ليست أول مرة أواجه فيها تلك اللحظات؛ حيث سبق اعتقالي عام 1981م وكنت وقتها رئيس اتحاد طلاب جامعة الإسكندرية، كما تم اعتقالي عام 1987م.
نية مبيَّتة
* ذكرت أنك اعتُقلتَ سابقًا.. فهل اعتقال هذه المرة مثل المرات السابقة؟
** في البداية كنتُ متوقِّعًا أن الاعتقال سيكون مثل سابقه، وإن شاء الله لن يطول، فتوقعتُ أن يكون شهرًا أو شهرين أو خمسة بالكثير، ولكن حين تم إحالة القضية إلى محكمةٍ عسكريةٍ أيقنتُ أن النيةَ مبيتة لنا بأحكامٍ خاصة، وتحديدًا بعد أحكام البراءة التي لم تُنفَّذ، ثم صدور قرارات بالاعتقال، فتركتُ الأمرَ كله لله وأدركت أن ما يحدث كله أسباب لذلك.
خبرة
* وماذا عن رفضك للذهاب إلى المحكمة العسكرية؟
** الحمد لله لديَّ خبرة في المحاكم العسكرية، فرغم أنها أول مرة أحضر فيها كمُتَّهمٍ إلا أني حضرتُ من قبل ثلاث مرات مع حماي الأستاذ محمد حسين وخالي الدكتور إبراهيم الزعفراني ومع صديقي ورئيسي في العمل المهندس مدحت الحداد أثناء عملي معه، وكنتُ أعلم ما يتم في تلك المحاكمات من تجاوزاتٍ وعدم وجود ضمانات حقيقية لمحاكمة عادلة.
وأذكر أننا كنا نذهب إلى المحكمة العسكرية مرةً كل أسبوعين للنظر في أمر حبسنا احتياطيًّا ونقف أمام 3 قضاةٍ ونتحدث معهم بالحجة والبراهين، وكثيرًا ما كانت مشادات كلامية تحدث مع المحامين والقضاة بسبب مواقفهم، وفي إحدى المرات طلب المحامي من القاضي أن يحبسنا 45 يومًا بدلاً من 15 بسبب ما نُعانيه كل مرةٍ في سيارات الترحيلات، وقال له المحامي "أعلم أنك لن تستطيع"، فضحك القاضي، وبعد المداولة لم يستطع إلا أن يُجدد لنا 15 يومًا.
** ما شعورك بعد سماع البراءة؟
** أصدقك القول أني لم أحزن في حياتي مثلما حزنتُ يوم البراءة، ولم تتسلل إلى نفوسنا فرحة واحدة ما دام واحدٌ منا محبوسًا ظلمًا، وكنا نتمنَّى تطبيق الحكم علينا جميعًا؛ سواء كان بالحبس أو بالبراءة؛ لأننا كنا على قلبِ رجلٍ واحدٍ من البداي ة، وتحوَّلنا إلى أسرةٍ واحدة، وبكيتُ أنا وأهلي بكاءً شديدًا، ونحمد الله على كل شيء، والخير في إرادة الله.
حكم الأمن
* بعد سماع الأحكام ما تعليقك على حكم المحكمة؟
** هذا ليس حكم محكمة، ولكنه حكم أمن الدولة ولجنة السياسات بالحزب الوطني، فالقاضي لم يحكم علينا ولم يقتنع بالاتهامات التي وُجهت إلينا من قِبل ضابط أمن الدولة، والدليل على ذلك أنه كان يتلعثم أثناء قراءةِ الحكم كأنه يقرؤه لأول مرةٍ، وغادر القاعةَ مُسرعًا؛ هربًا من دعائنا عليه، ولا أعرف كيف نام تلك الليلة؟!
* بدون شك لا بد من موقفٍ أثَّر فيك خلال تلك الفترة؟
** عند سماع الأحكام وبعد انتظار 4 ساعاتٍ بالمحكمة ومنع المحامين من الدخول إلى القاعة وعندما بدأ القاضي بقراءةِ أحكام البراءة لكثيرٍ من الإخوان منهم الدكتور خالد عودة والدكتور عبد الرحمن سعودي والمهندس أسامة شربي إلى أن بدأت الأحكام بالسجن 3 سنوات ثم أحكام السجن 5 سنواتٍ وبعدها أحكام 7 و10 سنواتٍ أُصبت بإحباطٍ شديدٍ واحتسبتُ ما حدث عند الله.
معية الله
* صف لنا كيف كنت تقضي يومك داخل السجن؟
** رغم أنه مرَّ على وجودنا داخل السجن سنة وخمسة أشهر إلا أنه بفضل الله كان الوقت يمرُّ بسرعةٍ داخل السجن، وكنا نشعر بمعية الله معنا، فطوى لنا الأيام لدرجة أنني لم أستطع إنهاء أي برنامجٍ شخصي كنتُ قد وضعته لنفسي، وكنتٌ أقضي وقتي في قراءةِ القرآن وحفظه وتلاوته، إلى جانب قراءة بعض الكتب، والاستفادة من العلماء ورجال الأعمال الموجودين معنا وخبرتهم الحياتية؛ أمثال الدكتور خالد عودة والدكتور عصام حشيش، بالإضافةِ إلى باقي المجموعة، فضلاً عن حضور جلسات المحكمة التي وصلت إلى 73 جلسةً، والتي كانت تستغرق الكثير من الوقت، ففي بعض الأحيان كانت تبدأ من العاشرة صباحًا حتى الساعة 11 مساءً، ورغم ذلك لا بد وأن نعترف أن السجن مهما كان هو سجن تُقيَّد فيه الحرية وتُغلق فيه الأبواب ونُحرم فيه من الأهل والأحباب والإخوان.
* هل تأثَّر البيتُ بغيابكم؟
** بدون شك غياب الأب أثَّر في استقرارِ الأسرة، ولكن الحمد لله أولادي كانوا رجالاً وعلى قدر المسئولية، وتعاونوا مع والدتهم كي تقوم بما عليها وأكثر، وكانوا جميعًا عند حسن الظن بهم.
* وماذا عن موقف الأهل والجيران؟
** بفضل الله موقف الأهل والجيران كان مُشرِّفًا للغاية في مساندتهم لنا، سواء بالسؤال أو بالدعاء أو بتقديم أي مساعدةٍ إذا لزم الأمر حتى عملاء شركتي، والناس الذين كنت أشرف على مشاريعهم الهندسية باعتباري مهندسًا استشاريًّا، وكذلك المهندسون الذين كنتُ أمين صندوق نقابتهم؛ كل هؤلاء وقفوا معنا وقفةً جيدةً جدًّا.. ربنا يجزيهم عنا خير الجزاء على ما قاموا به.
كله يهون
* لكن رغم ذلك لا بد من وجود معوقات أو مشاكل واجهتها؟
** كله يهون في سبيل دعوة الإخوان والإسلام، ولكن المشكلةَ كانت في الشركة وتشميع الشقة وبها عقود وأوراق ومصالح مقاولين وعملاء وتشريد الموظفين وأسرهم، حتى إن الشقةَ رغم أنها إيجار لم يستطع صاحب الشقة الاستفادة منها حتى الآن، ورغم أنه رفع قضية استحواذ عليها لم يستطع أن يستردها، وآمل أن أقوم بردِّها له.
* ما الرسالة التي تود أن توجهها إلى الإخوان أو المقربين لهم؟
** أقول للإخوان أنتم على الحق، وأنتم على الدرب الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الذي اهتدى به الإمام البنا، فأنتم أشد الناس ابتلاءً، وهذه سنن كونية قدَّرها الله سبحانه وتعالى، ولا يضيركم أحكام عسكرية أو سجن فهذه ضريبة لا بد من دفعها راضين صابرين محتسبين ومجاهدين في سبيل ديننا وأمتنا ودعوتنا، ولنا في إخواننا في فلسطين الأسوة الحسنة، فهم يجاهدون بأنفسهم وأرواحهم ونحن نجاهد بجزءٍ من أموالنا وحرياتنا.
* الدروس المستفادة من هذه المحنة الأخيرة؟
** دروس كثيرة وإن كان أهمها هو المزيد من الانضباط وتدريب النفس على التضحية والجهاد والبذل والاستعداد لما هو أسوأ وعدم إضاعة أي وقتٍ دون الدعوة إلى الله وتطوير أنفسنا.
Labels: حوارات الرهائن المحررة
- الأمور في مصر تُدار بكاميرات فيديو وأشخاص لا يعرفهم أحد
- عدد من ضباط الأمن يحملون تقديرًا لمشروعنا الإسلامي الوسطي
- انهمرت دموعنا بسماع حكم الجنايات ببراءتنا جميعًا
- أسرتي نضج فهمها وابنتي أطلقت مدونةً أثناء اعتقالي
حوار- أحمد رمضان
يا لها من لحظاتٍ رائعة تلك التي يجلس فيها المرء مع أحد الذين أخذوا أحكامًا بالبراءة؛ روحانيات تتدفَّق ومشاعر أخوة تُتَبادل، وأحاسيس عميقة لا يستطيع مداد أقلام أن يُدركها.
ولم يكن حوارنا الذي أجريناه مع ياسر محمود عبده الأمين العام لنقابة التجاريين بالجيزة وأحد الأربعين الشرفاء الذين طالتهم مهزلة المحكمة العسكرية، ولكنها كانت لحظات تَفكُّرٍ في الصبر والثبات، وأخرى تأمُّلٍ في طبيعة الدرب والطريق، واستشراف مستقبل مصر تحت وطأة نظامٍ مستبد، كشف لنا خلالها ما جرى داخل الأسوار، وتركناه يتحدَّث حتى نقل لنا صورةً لما حدث، وكأننا نشاهد شريط فيديو لذكرياته حسب تعبيره.. فإلى الحوار "شاشة العرض":
* في البداية كيف استقبلت إحالتكم مع المعتقلين على خلفية أحداث الأزهر إلى القضاء العسكري؟
** لم تكن هناك أحداث في جامعة الأزهر تُبرِّر الإحالة إلى القضاء العسكري ولا حتى الإحالة إلى القضاء المدني، وأنا أفهم هذه الإحالة في إطار حيرةِ النظام في مواجهة الحقائق التي كشفت عنها الانتخابات البرلمانية عام 2005م وأهمها أنه لم يعد متاحًا للنظام الركون لعوائق طبيعية أمام التفاعل المثمر بين الحركة الإسلامية وبين قطاعات المجتمع المصري على اتساعه، بما في ذلك أبناء الريف، وحتى أهلنا في أعماق الصعيد.
وربما قد يفهم البعض هذا التفاعل كثمرةٍ لجهد وعطاء أبناء الحركة الإسلامية، وربما يفهمه آخرون في إطار فساد النظام وترهله، وقد يكون الأصوب فهمه في الإطارين معًا، وأيًّا كان الأمر فهذه هي الخلفية الحقيقة لإحالة قضيتنا إلى القضاء العسكري.
* هل كان قرار الإحالة للقضاء العسكري مفاجأة لك؟
** لم يكن مفاجأةً؛ إذْ سبقه قرار التحفظ على أموال رجال الأعمال وإغلاق شركاتهم، وهو قرار لا يقل في مغزاه عن قرار الإحالة إلى القضاء العسكري؛ فلا يوجد معنى في نظامٍٍ يدَّعي الرهان على تطبيق مبادئ الاقتصاد الحر في مواجهة المشاكل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، ثم يقوم بإرهاب رجال الأعمال إلا معنى واحد هو استعداد هذا النظام للتضحيةِ برهانه الوحيد سعيًا لاستمرار تسلطه وهيمنته.
وعليه فلم يكن مستبعدًا بعد تكشُّف النوايا من خلال قرار التحفظ على الأموال وإغلاق الشركات أن يتم إحالة القضية إلى القضاء العسكري.
الأجهزة الناعمة
* كيف ترى تجربتك في الاعتقال والمحاكمات العسكرية من زاوية اهتماماتك الاقتصادية؟
** كشفت لي تجربتي عن عالمٍ واسعٍ لم يسبق لي الاحتكاك به بهذه الصورة، وهو عالم الأجهزة، وأقصد به الأجهزة التي تُعين الحاكم على إحكامِ سيطرته على الشعب والناس.. أجهزة عديدة عرفنا أسماء بعضها ولم نعرف أكثرها، كنا نشعر دائمًا بأثرها ولا نعرف رجالها.. في قاعة المحكمة كان هناك بين الجمهور أفرادٌ غامضون يقومون بتسجيل ما يدور في الجلسات، وسألنا مَن هؤلاء؟ وكان الرد: إنها الأجهزة، بل كان هناك تصوير بالفيديو للجلسات، وسأل الدفاعُ: "لحساب مَن يتم التصوير في قاعة محكمةٍ مفروضٍ أنها مستقلة؟!" ولم ترد هيئة المحكمة، وقيل أيضًا إنه أحد الأجهزة.
بل وفي جلسة النطق بالحكم مُنع الأهالي والمحامون من الحضور، ورغم هذا امتلأت قاعةُ المحكمة العسكرية بوجوهٍ غريبةٍ علينا؛ يرتدي أصحابُها الزي المدني، وفهمنا أن هؤلاء من رجال الأجهزة.
فإذا أضفنا لهذه الأجهزة الناعمة تلك الأجهزة الخشنة من سجونٍ ومعتقلاتٍ وأمنٍ مركزي وترحيلات، وإذا حَسَبنا ما يُنفَق على اجتذابِ أصحاب العقول اللامعة للعمل بأجهزة القوة الناعمة، وإذا أضفنا إليه ما يُنفَق على هذا الكمِّ الضخم الذي يعبَّأ في أجهزة القوة الخشنة، وإذا علمنا أن هذا كله تحميلٌ على القدرات الاقتصادية المحدودة لهذا البلد الفقير.. لعلمنا مقدار الثمن الباهظ الذي يُدفع لتحقيق استقرار النظام؛ ليس عن طريقِ الرضا والقبول، ولكن عن طريق وأدِ الحيوية السياسية في هذا المجتمع المقهور.
والسؤال هنا لأصحاب العقول الحرة والضمائر الحية: ماذا لو أُنفِقَت هذه الأموال الضخمة على التنمية البشرية لأفراد الشعب حتى يتسنَّى لهم المشاركة بكفاءةٍ في النشاط الاقتصادي ويتحمَّلوا الرياح العاتية للمنافسة العالمية؟!
* صف لنا كيف مرَّت عليك تلك الفترة التي قضيتها وراء الأسوار؟
** كانت فترة خصبة لنا جميعًا؛ فقد انتُزعنا إجباريًّا من الاستغراقِ في مشاغل الحياة وهمومها، وأُتيحت لنا فرصةٌ للإدراك الأعمق لحقائق الإيمان والتأمل الأرحب في سننِ الحياة والحوار المثمر حول الإصلاح وقضاياه.
الوجه الآخر
* نريد أن تحدِّثنا عن رؤيتكم لأجهزة السلطة من خلال تجربتكم في الاعتقال والمحاكمات العسكرية؟
** في ظاهر الأمر كنا ضعفاء مأسورين في يدٍ قويةٍ قادرةٍ، وكان هذا المعنى يبدو لي جليًّا في أيام المحاكمة التي استمرت ما يزيد عن 70 جلسةً، وبخاصةٍ في جلسات الشتاء التي كانت تستمر إلى ساعةٍ متأخِّرة، وعندما كنا نتأهَّب للخروج في قاعة المحكمة بعد حلولِ الظلام نجد رجال الأجهزة قد انتشروا حولنا في حلقاتٍ من شرطة ومباحث ومخابرات، وتنطلق الأوامر وتتعالى الصيحات وتزمجر السيارات وتسطع الأنوار ويصطف الموكب واللواءات والحراس.
ولكنَّ الصورةَ تختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عندما تُتاح مساحةٌ من التواصل الإنساني مع أفراد هذه الأجهزة، فكنا نجدهم في معظمهم مثلنا؛ جزءًا من نسيج هذا المجتمع، وكنا نسعد عندما نجد أن الكثيرين منهم يحملون تقديرًا لمشروعنا الإسلامي الوسطي، وأن محاولات تشويه هذا المشروع قد فقدت جدواها حتى داخل مَن يعتبرهم الظالمون رجالَهم.
بالطبع.. ما زالت للقمة العيش حكمها وللاستبداد هيمنته، ولكنه استبداد فاقدٌ أهمَّ أركان استمراره، وهو المشروع الذي يُقنع الآخرين به ويجمع الناس حوله.
مواقف لا تُنسى
* ما أبرز المواقف التي لا تنساها أثناء فترة اعتقالك؟
** كانت أيام الاعتقال ثريةً بالمواقف التي أثَّرت في نفسي؛ بحيث إنه من الصعوبة بمكانٍ أن أختار منها، ومع ذلك سوف أذكر هنا موقفين لا أنساهما:
الموقف الأول: يوم أن تظلَّمنا أمام محكمة الجنايات من قرار النيابة بحبسنا احتياطيًّا، ورغم قناعتنا التامة بأن الاتهامات المُوجَّهة لنا من إرهابٍ وميليشياتٍ وغسل أموال لا أصل لها، إلا أننا لم نكن نتوقَّع أن يُثمر التظلُّم هذه النتيجة؛ ولذا كانت المفاجأةُ كاملةً لنا عندما حكمت محكمة الجنايات بالإفراج عنا فورًا وبدون ضمان، وما زلتُ أذكر دموعَ الفرحة وهي تنهمرُ من عيوننا عند سماع الحكم، وقد شعرنا جميعًا وقتها بمعنى وقيمة أن يكون القضاء مستقلاًّ.
الموقف الثاني: يوم أن أُحلنا إلى القضاء العسكري، ورغم عدم قناعتنا بمحاكمتنا عسكريًّا، إلا أنني من ناحيةٍ أخرى لم يُسبق لي أن عانيتُ من أي تعسُّفٍ عن طريق أجهزة القوات المسلَّحة المختلفة، ومرَّت شهور طويلة انتظرت وغيري أن أستُدعِيَ للتحقيق أمام النيابة العسكرية دون جدوى، وفجأةً وفي إحدى ليالي شهر أبريل، أخطرتنا إدارة السجن بأن أول جلسات المحكمة ستكون في الغد، وكنا نتساءل: كيف ذلك ولم يُسبق أن حقَّقت معنا النيابة العسكرية؟! وحقيقة كنت في قمة الحزن وأنا أسمع إلى ممثل النيابة العسكرية وهو يعلن في أول جلسات المحكمة أنه بعد التحقيقات قد ثبت في يقينه أننا قد قمنا بعمليات غسل أموال وإرهاب وتكوين ميليشيات، ووجدتُ نفسي أنظر للرجل في أسًى من خلف قفص الاتهام، وأنا أردِّد في نفسي.. "ثبت في يقين النيابة.. ثبت في يقين النيابة".
أجيال العسكرية
* وماذا عن أثر تجربة الاعتقال والمحاكمات العسكرية على أسرتك؟
** الاعتقال والسجن والقيود جزءٌ من عالم أسرتي من قبل أن أولد؛ فليس في الأمر جديد، ولكن عندما أقارن هذه المرحلة بمراحل سابقةٍ أحمد الله أولاً على أن وعْيَ المجتمع قد أصبح من الصعب تزييفه، بالطبع ما زال للقمع رهبته، وما زالت التضحية عزيزة، لكن الناس أصبحوا يدركون من لهم ومن عليهم، وأصبح الاستبداد يلجأ إلى القوة العارية من أي منطقٍ أو تبرير، وأحمد الله ثانيًا على أن أجيالاً جديدةً نشأت في ظل التعسُّف والقمع أراها في صورة ابنتي أسماء التي أثمر ضغط التجربة عليها فهمًا أرحب لمشروعنا الإسلامي، ووعيًا أعمق بفضائل الحريات، وتواصلاً أشمل مع ألوان الطيف الاجتماعي والفكري المتباينة من خلال مدوَّنتها التي أطلقتها في الفضاء الإلكتروني الواسع الذي يتجاوز كل الحدود والقيود.
* كيف استقبلتم الأحكام عند صدورها؟
** كنا جميعًا نُعدُّ أنفسنا وأسرنا لقضاء فترةٍ قد تطول خلف الأسوار، وكنا نعلم أن ابتلاءات الحياة متنوعة وليس السجن أقساها، وقد استقبل الجميعُ الأحكامَ بحمد الله على نعمته والرضا بقضائه، سواءٌ المُفرَج عنهم أو من تأجَّل الإفراج عنهم لأجلٍ ولحكمةٍ يعلمها الله.
* كيف كان حديث م. خيرت الشاطر لإخوانه عن تجربة السجن والاعتقال؟
** أذكر للمهندس خيرت الشاطر أنه كان إذا ذكَّرنا بالثبات أمام تجربة السجن والاعتقال أو إذا دعا الله للمأسورين والمضطهدين فإنه يبدأ بأسرانا في سجون العدو الصهيوني وأهلنا في فلسطين الحبيبة، وكان يعتبر ثباتهم وصمودهم مثلاً نقتدي به نحن كذلك وأسرنا خارج الأسوار.
اللحظات الأخيرة
* احكِ لنا عن آخر ليلةٍ قضيتها في حجرتك في السجن.. كيف مرَّت بك؟
** كانت ليلةً مليئةً بالشجن والمشاعر المستورة التي يصعب أن تتحوَّل إلى كلمات.. كانت حجرتنا قد ودَّعت اثنين من أركانها قبل حلولِ الظلام، هما د. خالد عودة وم. أسامة شربي، وكنتُ أتهيَّأ مع أخي د. عبد الرحمن سعودي للرحيل، وكانت عيوننا ترقب في حنوٍّ إخوتنا الباقين في الحجرة: د. محمد علي بشر، وم. مدحت الحداد، ود. عصام حشيش، ود. عصام عبد المحسن، وهم يعيدون ترتيب الأوضاع والخدمات وفق الواقع الجديد.
ووجدتُ شريطَ الذاكرة يدور دون أن أُحرِّكه مستعيدًا لمساتٍ تعلَّمتُها وخبراتٍ اكتسبتها من مصاحبتهم خلال هذه الشهور الطويلة في هذا المكان المحدود؛ بدايةً من د. بشر اللين السهل "حلاَّل المشاكل" إلى م. مدحت الحداد صاحب المؤهلات الدراسية المتنوعة الذي كنت دائمًا أنسى أنه من رجال الأعمال وأضمه إلى المهنيين أمثالي؛ لبساطته وتواضعه، إلى د. عصام حشيش المتفائل دائمًا وملك المواساة في السرَّاء والضرَّاء وللحكومة والأهالي معًا، وأخيرًا آخر العنقود، وأقصد أصغر أبناء الحجرة سنًّا د. عصام عبد المحسن أستاذ الرومانسية الذي لم ييأس حتى آخر لحظة أن يُعلِّم أمثالي بعضًا منها، ولكن هيهات.
ومضت ساعات الليل القصيرة واستيقظتُ على نداء م. مدحت لتناول سحور الخميس الذي قام بإعداده، ثم انتقلنا إلى صلاةِ القيام خلف إمام التهجد د. عصام عبد المحسن إلى أن حان أذان الفجر فصلَّى بنا إمام الفجر د. بشر، ثم جمعتنا خاطرة الفجر وأذكار الصباح إلى أن أشرقت شمس اليوم الجديد.
وتذكرتُ لحظة وداع د. خالد عودة لهؤلاء الأربعة النبلاء وهو يصرُّ، وهو العالم الفذ الذي عبر الستين، على تقبيل يد كلٍّ منهم.. كان يريد تكريم النبل فيهم؛ فقد ساروا في طريقٍ شائكٍ وهم يعلمون أنهم قد يدفعون الثمن، ومع ذلك استمروا، ورأوا غيرهم يدفع الثمن واستمروا، بل منهم مَن دفعوا الثمن من قبل، ومع ذلك استمروا، وها هم يدفعون الثمن مرةً أخرى وسيستمرون إن شاء الله.
* ما توقعك لمستقبل العلاقة بين الإخوان والنظام في الفترة المقبلة؟
** أتوقَّع استمرار حالة الانسداد السياسي التي يعاني منها الجميع الآن؛ فقد أضحت الحركة الإسلامية بحيويتها وانتشارها وتواصلها مع المجتمع- شاءت أم أبت- تحديًا ضخمًا أمام النظام، وبالتالي فإنَّ الخيارَ أمامه أصبح واضحًا، إما أن يرفع كفاءته ويُزيح عناصر الفساد ويقوي خطوط تواصله بالقاعدة الشعبية العريضة حتى يستحقَّ عن جدارةٍ تولي زمام الأمور، وإما أن يلجأ إلى القمع الأمني والتزييف الإعلامي وتوظيف أجهزة الدولة لتكريس بقائه في السلطة ولو على حساب الاستقرار الحقيقي لهذا البلد، وعلى حساب مستقبل الأجيال القادمة.
دور النخبة
* كيف كنتم تستقبلون مشاعر التضامن معكم التي عبَّر عنها المثقفون المصريون؟ وهل من كلمةٍ توجِّهها إليهم بعد الإفراج عنك؟!
** كنا نشعر جميعًا بالامتنان العميق لكلِّ مَن وقف معنا ضد هذه الإحالة الظالمة إلى القضاء العسكري من جميع ألوان الطيف السياسي؛ بدايةً من د. عبد المنعم سعيد، وحتى د. عبد الحليم قنديل؛ فقد كانت كلماتهم تنزل بردًا وسلامًا علينا، وحافظت على استمرار ثقتنا في النبلاء من النخبة المثقَّفة من أبناء هذا البلد.
وأودُّ ألا تفوت هذه الفرصة دون أن أصارحهم بأنني على يقين أن لديهم الكثير الذي يمكن أن يفيدوا به مجتمعنا، بل ويفيدوا به هذه الصحوة الإسلامية المتنامية، ولا أجد حرجًا في أن أقرَّ بأن لديهم الكثير الذي نحتاج أن نتعلَّمه منهم.
وحتى تتحقَّق هذه الاستفادة فمن حقنا ومن حق المجتمع عليهم أن ندعوَهم إلى الانفتاح أكثر على الإٍسلام كأحد الحقائق الثابتة للمجتمع الذي ينشدون إصلاحه، وإنني أود أن أسرَّ إلى هؤلاء الإخوة الكرام أن تجاهل هذه الحقيقة يكلفنا جميعًا ويُكلِّف مجتمعنا الكثير.
كتبت : ايمان عبد المنعم- فريدوم كوست
على بعد 25 كيلو متر من طريق القاهرة إسماعيلية الصحراوي ، وبوسط قاعدة عسكرية تحمل اسم نبي الله "أيوب " ودعت عائشة ابنة ال12عام أمس الثلاثاء 15 ابريل هذا المقر الذي اعتادت المجئ إليه على مدار عام بالكامل ،لم تكن تأتي إلي تلك الساحات الصحراوية الخاوية من زاد و الماء لتلهو كباقي إقرانها في نوادي العاصمة الكبرى ، أو لتلقى دروس الدفاع المدني،ولكن لتلقى والدها رجل الأعمال حسن مالك ،خلف كتلة خراسانيه،والأسلاك الشائكة ..
فمع دقات السادسة صباحا تستيقظ عائشة وتعد ملابسها لتخرج هي والدتها وأخيها أنس الذي يكبرها بعام واحد ،لتذهب إلى القاعدة العسكرية في تمام السابعة صباحا لتنتظر ضمن أبناء 40 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين حتى دقات الثانية عشر ظهرا حين يسمح لها القاضي العسكري ومن معها الدخول إلى مقر المحكمة العسكرية بعد عملية تفتش كاملة، يشوبها شعور بالإهانة .
علي مدار 73 جلسة تخلها فصول الشتاء والبرد القارص ، والصيف وحرارته المرتفعة ونسمات الربيع التي لم تهدأ بالا، ولا تصفي ذهنا لهؤلاء الشاردة أذهانهم في الصحراء الصفراء ....عاشت عائشة أجواء المحكمة العسكرية .
آتت إلي هنا قبل عام وفي نفس المكان تنادي علي أبيها والدموع تتصبب من أعيونها كنهر يجري علي منحدر ، لتخرجت اليوم وعيونها تنزف ذات الدمع ولكن بعدما حكم علي أبيها بأقصى عقوبة بلغت سبع سنوات كاملة
ليغيب الأب عن الطفلة، ليخرج إليها وهي شابة تربت في ظل نظام ظالم اختطف أبيها دون جرم من أحضانها ..
وعبر تلك البوابة الضخمة التي تحمل نسرين عملاقيين بمدخلها الهرمى الشكل ،الذى يحمل خلفه عشرات الإ من الصحراء الجرداء التي تحملها على طولها وعرضها لافتات لانجازات الجيش المصري كان يمر الأهالي ومن بينهم عائشة تناقص بنظرها طول المسافة التي تفصلها عن والدها
ورغم أن تلك القاعدة العسكرية ممنوع الاقتراب منها أو اجتياز بوابتها الأولي من قبل المدنين إلا أن عائشة كان لها وضع خاص، فهي تدخل إلي تلك الساحة بأمر مباشر من رئيس الجمهورية الذي أحال أبيها إليها القاضي العساكر
ورغم الاستثناء الذي منحه الرئيس مبارك لتلك الطفلة من امتياز لا يمنح لا لمن يحمل رتبة عسكرية ، إلا أنها تسأل دائما ما ذنب أبى الذي يحب مصر فان يأتي إلي تلك المحكمة الخاصة جدا ، هل ذنب أبي أن جلب استثمارات بالملايين إلى تلك البلاد ، سؤالا كثيرا ما طرأ على ذهنها ..
وتجيب علي نفسها بعقلية الطفلة : ذنب أبي أنه لم يسمع نصيحتي بهجر تلك البلاد والسفر إلي الخارج كأصدقائه الذين فضلوا الاستثمار في بلجيكا أوكرنيا وغيرها من الدول الأوربية ... بالتأكيد هذا هو ذنب أبي ،لماذا يفكر بمصر وهي اليوم تصادر أموالنا حتى قرطي الصغير خلع من آذني كما خلع قلبي من صدري يوم أن القي علي أبى
الخلوة التي عاشتها داخل تلك القاعدة خلال انتظارها لساعات طويلة بداخلها جعلتها تدرك سر إطلاق اسم النبي أيوب عليها ،هذا النبي الذي درست قصته للتو بالمدرسة وعملت انه نبي صبر علي البلاء والإيذاء والمرض لسنوات طويلة ولم يمل أو ييأس ولم يستسلم حتى ابرءاه الله من مرضه وكربه ...
سيارة الجيش كانت الوسيلة التي تحمل عائشة إلي داخل مقر المحكمة العسكرية التي تقع علي بعد عشر كيلو تقريبا من كافتيريا البواسل التي كانت تشتري منها عائشة الحلوى خلال فترة انتظارها السماح لها بالعبور إلي عمق الصحراء الجرداء ..
وعلي بوابة هذا المبني الصغير ذو الطابق الواحد كانت الكلاب البوليسية الضخمة ترعب قلب الطفلة ورفقائها ، فهي المستقبل الأول لعائشة عند نزولها من سيارة الجيش يلها مجموعة من رجال المخابرات ، وامن الدولة ، وقلة من عساكر الجيش ،لتمر بينها إلي هذا الجهاز الإشعاعي لتأكد من خلو جيوب الصغيرة من أي اله حادة ورغم قدرة الجهاز الفائقة علي كشف تفاصيل الجسد وليس ما تحويه الجيوب فقط ، إلا أن هناك مرحلة ثالثة للتفتيش تحت أيدي سيدات ، فبداخل تلك الحجرة الصغيرة تفاجئك 3 بنات بالهجوم عليك بغتة وأيدهم على كافة أنحاء الجسد بطريقة تثير الاشمئزاز والأعصاب في أن واحد .
وداخل تلك القاعة الكبيرة التي تشبه مسرح الأوبرا الصغير تدخل عائشة لتصدم عيناها بالميزان كبير كرمز للعدل هكذا علمت عائشة فيما بعد ..لتتساءل من جديد وأين العدل في وجودنا من الأصل في تلك القاعة ؟ ولكن لا تجد إجابة .
وعلي الكراسي الخشبية المتهالكة تجد القصص عن المحاكمات العسكرية ، تقراها عائشة جيدا وتخزنها في الذاكرة لترويها إلى والدها بمجرد دخوله إلي محبسه الذي يقع بطول الجهة اليسرى من القاعة .
عشر ساعات يوميا تقضها عائشة داخل هذا القاعة التي يرفض القائمون عليها فتح نوافذها لدخول الهواء النقي إلي القاعة .
كما يرفض قضيها تلبية طلبات هيئة الدفاع المتوالية والتي تارة تطالب بالإفراج عن المتهمين ومنهم أبيها لأنهم حصلوا بالفعل علي حكمين بالبراءة من القاضي الطبيعي
وتارة أخري يطالبوا بأدنى الحقوق لإجراء محكمة قانونية تستوفي كافة الإجراءات القانونية ، ورغم عدم استيعاب عائشة لتلك الطلبات إلا أنها تدرك معني الرفض والنظرة الحادة في عيون هذا القاضي الذي يعلو فوق المنصة
كثيرا ما جرت عائشة وأخيها أنس إليه تتوسل إليه أن يفرج عن أبيها ،ولو أيام يفطر معها في رمضان كما كان يفعل ، أو يصلي معها العيد ، إلا أن دموعها وتوسلها لم يحن له قلب ، وأن كانت تبكي جميع المتواجدون بالقاعة عدا المنصة بطبيعة الحال .
هكذا كان الحال داخل هذه القاعة التي باتت تألفها عائشة رغم قسوتها ،فعشرات من الساعات اليومية تقضها هنا استمرت ل73 جلسة
وبالأمس وصلت عائشة إلي ذات القاعدة كعادتها ولكن القاعدة ليست كعادتها، الطرق مغلقة ، مئات من جنود الأمن المركزي تطوق مدخل القاعدة ، الجميع يرفض دخولها بالقوة ، أمها تضرب وأختها وأخويها يعتقلون أمام أعيونها تاركين يديها وحيدة ، تنظر حائرة ماذا تفعل ، وفي وجه من تصرخ ، ومع من تشعر بالإيمان وأبيها بالداخل لا تقوي علي الجري لترتمي بأحضانه
ومن أبواب تلك البوابة تجري عائشة مرعوبة من عصا الأمن ،ولكن الرعب الكبر من القادم
انه الحكم ، أقصي حكم ، هكذا جاءها الخبر وهي تقف في الجهة المقابلة من الصحراء ، الحكم ب7 سنوات لحسن مالك لتودع عائشة القاعدة وهي تتمني إلا يدخلها مصري أبدا ..
Labels: مشاركات بعد الأحكام
- وفاة د. ياسر اختبار في الابتلاء خفف قسوة الأحكام على إخواننا
- القضية إجرام وتلفيق ومحققو النيابة قلوبهم معنا وسيوفهم علينا
- القاضي قال لنا: "دعوتُ الله ألا أقرأ عليكم الأحكام لأنها ليست قراري"
- أثبتنا زيف تهم الإرهاب وغسل الأموال عن دعوتنا أمام العالم أجمع
حوار- حسن محمود
المهندس سعيد سعد علي عبده، ولد في 31/12/1957م بمدينة الحامول بمحافظة كفر الشيخ، حصل على بكالوريوس الهندسة عام 1980م بتقدير جيد جدًّا، ثم تولَّى بعدها بخمس سنوات أمانة صندوق نقابة المهندسين بكفر الشيخ، وانضمَّ إلى جماعة الإخوان أثناء المرحلة الجامعية، وكان أول مَن غرس بذرةَ دعوة الإخوان المسلمين في مدينة ومركز الحامول.
التقينا به بعد أن حصل على حكمٍ بالبراءة في نهاية مسلسل هزلي لأكبر قضية عسكرية ملفَّقة لـ40 إصلاحيًّا مصريًّا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، كان حوارنا معه ذا طابعٍ خاص، ولعلَّ السر في ذلك يكمن في شيئين: الأول يتمثَّل في اليقين الإيماني العالي الذي يخفق به قلب المهندس سعيد سعد، والذي عبَّر عنه بكلماتٍ قويةِ المعنى والمضمون، والثاني ربما لأن إجراء الحوار معه جاء بعد فقده فلذةَ كبده ياسر، الطالب بكلية الطب والابن الأكبر لأبيه قبيل لحظات من الإفراج عنه من المحكمة الهزلية بالهايكستب إثر حادثٍ أليم، ليخرج من معتقله إلى تشييع جنازة نجله البكر.
كان حديثه عن زوجته روضة محمد الشناوي في حواره معنا حديثًا عن زوجةٍ كأنها تعيش في عصر صدر الإسلام؛ رسم خلاله الطريق إلى الجنة بفهمٍ عالٍ طوال الحوار، موضحًا أن أهم ما يشغله بعد خروجه من محبسه أن يرفع الراية مع إخوانه ويسعى في طريقه من أجل الحق وإنهاء الباطل حتى يرضى الله عنه.
وكشف في حواره معنا أن القاضيَ أبلغهم في التأجيل الثاني لجلسة إعلان الحكم أنه جلس يدعو الله عز وجل ليلتها ألا يجعل لهم على يده أحكامًا، موضحًا أن الأحكامَ قد أُعدِّت مسبقًا، وأن المسألةَ برمتها هي مسألة إجرام وتلفيق وخصومة سياسية غير شريفة من النظام، مشدِّدًا على أنه هو وابنه الشهيد ياسر سيقفان أمام الله عز وجل شاهدَين على ظلم العسكرية.. فإلى نصِّ الحوار.
* بدايةً.. كيف حال المهندس سعيد سعد الآن بعد لحظات الابتلاءات الصعبة التي عاشها؛ من ظلم العسكرية إلى موت ولده الأكبر؟
** الحمد الله على كل حال.. لقد جاء موت د. ياسر تخفيفًا على إخواننا الذين حصلوا على أحكامٍ بالسجن ظلمًا وعدوانًا لمدد 7، 5، 3 سنوات، ليؤكِّد لهم أن الابتلاءات تتعدَّد، فاصبروا واحتسبوا، أما أنا والأسرة فنحن احتسبنا واسترجعنا، ونطلب من الله الصبر والسلوان.
تناقض الاتهامات
* لو استرجعنا ذاكرة الفصول الهزلية للقضية العسكرية معكم.. كيف كانت اللحظة الأولى في هذه المهزلة؟ وماذا حدث؟
** في يوم 13/1/2007م كنت ضمن المجموعة الأخيرة التي عُرضت على نيابة أمن الدولة في نفس اليوم، وفوجئت في العرض أنهم يُضيفونا إلى القضية 963 الخاصة بالأزهر، وأنا استغربت تمامًا كيف أكون في كفر الشيخ وأُتَّهم في قضيةٍ سمَّوها "قضية البر" ثم أُتَّهم في قضية الأزهر، فعرفتُ وقتها أن التلفيق هو سيد الموقف؛ حيث إنني من أقصى شمال الجمهورية أدعم وأمد وأُحرِّض من مكاني طلاب جامعة الأزهر بالقاهرة.
صار الوضع على هذا المنوال حتى تجمَّعنا كلنا في سجن مزرعة طرة بعد مجيء المهندس خيرت الشاطر من سجن المحكوم، وعندها شعرنا جميعًا أنَّ هناك مؤامرةً كبيرةً تُدبَّر لنا!.
* لكن تُرى من وجهة نظرك.. كيف دُبِّرت هذه المؤامرة بالنسبة لكم؟
** لقد أخذت مجموعتنا 15 يومًا على ذمة التحقيق، وكان قرار الحبس مكتوبًا، ونموذجُ الحبس موجودًا في ملفي أمام نيابة أمن الدولة؛ حيث وجدته أمامي وأشرتُ إلى المحقق أنَّ القرار موجود قبل أن يتكلَّم أحد، وهذا يعني أن المسألةَ إجرامٌ وتلفيقٌ وخصومة سياسية غير شريفة من النظام رأينا فيها الأحكام تُعدُّ مسبقًا على طول طريقنا أثناء الحكم.
وحتى عندما عُرضنا على النيابة العسكرية أثناء قضاء المدة لم يجرِ معنا أي تحقيق، بينما أعلن المدَّعي العسكري لوسائل الإعلام أنه تمَّ مد الحبس؛ لأن التحقيقات لم تنتهِ، رغم أنه لم يجرِ معنا أي تحقيق، وعندما اعترضنا على ذلك بكى أحدُ المحقِّقين وقال لنا: "اصبروا"، فقلنا في نفوسنا: قلوبهم معنا وسيوفهم مسلَّطة على رقابنا.
شهود الزور!
* إذا كانت القضية- كما ذكرت- مؤامرةً.. فما الدافع من تشكيل هيئة للدفاع عنكم؟
** كنا نشهد فصول مسرحية مرسومة الأدوار، وفكَّرنا أن نتجاهلها ولا يقف أحدٌ من المحامين ليدافع عنا، ولكن استقرَّت الآراء على الأخذِ بالأسبابِ والدفاع عن أنفسنا ودعوتنا أمام القلوب الصماء والأعين العمياء التي تقف أمامنا.
وأؤكِّدها للجميع.. إن جلسات المحاكمة الـ73 احتسبناها من أجل دعوتنا لنسقط عنها تهم الإرهاب وغسل الأموال أمام العالم كله؛ من أجل أن يسمع العالم صوت دعوتنا، ولكي نُبلِّغ رسالتنا كغلام أهل الأخدود الذي أخذ بجميع الأسباب كي يبلِّغ رسالته.
كما أن قضيتنا كانت بلا أدلة ولا قرائن ولا شهود.. كنا أمام شهود زور يقودها عاطف الحسيني ولجنة الكسب غير المشروع التي أثبتت عليهما هيئة الدفاع أكثر من 20 قضيةَ تزوير، وسيُحاسبهم الله عليها في الدنيا أو في الآخرة، وحسبنا أنَّ الدنيا كلها تسمع عن دعوتنا وأهدافها الإصلاحية النقية الشريفة ولو على حساب حريتنا.
نهاية المهزلة
* لكل محكمةٍ نهاية، وكانت نهاية محاكمتكم نهاية درامية.. كيف تصفها لنا؟
** لقد كان يومًا مشهودًا.. وصلنا الساعة 11 إلا ربع، ولم تبدأ الجلسة إلا في الواحدة والثلث، وفوجئنا أن الموجودين كلهم من الشرطة العسكرية والمخابرات وأمن الدولة، ولم نجد أحدًا من المحامين موجودًا، وقام الأمن بالاعتداء على أهالينا خارج القاعة، وكان منهم ابني الشهيد ياسر الذي لقي الله عزَّ وجلَّ بآثار الاعتداء على جسده لتكون شهادةً له يوم القيامة.
وحدث أمرٌ لا يحدث إلا مع الإخوان المسلمين، مع الذين تربَّوا في أحضان كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الصحابة والتابعين؛ فالذي أخذ البراءة ظل يبكي، ومَن أخذ حكمًا وأُدين ظلمًا وطغيانًا وعدوانًا يهنِّئ أخاه ويُهوِّن عليه، وهذه ظاهرة تعجَّب منها الحاضرون، ولكنها ليست غربيةً على مجتمع الإخوان؛ حيث الإخاء والحب في الله عز وجل.
رسالة القاضي
* كيف كان واقع الحكم عليكم؟
** الحكم ما هو إلا استمرار لنظام غبي لا يملك أي أدلة أو حجة، ولا يستطيع أن يقف ليواجه الرأي بالرأي ويصلح من نفسه.. نظام يلجأ إلى العنف والإرهاب والبطش، رغم أنها أدوات الضعيف المهزوم.
ونحن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل في حبس إخواننا، وحسبنا الله ونعم الوكيل في من أصدر هذه الأحكام؛ فلا يوجد واحد فينا له تهمة غير تهمة الآخر أو تهمته أكبر من الأخرى، ومواقفنا القانونية واضحة، ولكنها أحكام مسبقة دُبِّرت بليل، حتى إن القاضي كان يقرأ الأحكام كأنه يقرؤها لأول مرة، بل نعتقد أنه فوجئ بها كما فوجئنا بها أيضًا!.
وأقول لكم إن القاضي بعد التأجيل الثاني لجلسة إعلان الحكم بعث لنا رسالة أنه جلس طوال الليل يدعو الله عز وجل ألا تصدر الأحكام على يده؛ فهو ليس صاحب قرار الحكم.
* وماذا بعد 15 شهرًا في المحكمة العسكرية؟
** ما بعدها هو ما عشنا له قبلها؛ ما بعدها وما قبلها هو دعوتنا.. أن نسارع إلى حمل الراية وأخذ المكان في الصف، مهما كان ظلم الظالمين، ومهما تحفَّظوا على أموالنا وحرمونا من أولادنا وأزواجنا؛ فنحن لن نتخلَّى عن مبادئنا، وسنأخذ مكاننا ونرفع الراية مع إخواننا لكي نكمل المسيرة؛ لأن طريق الجنة معروف، ولا يمكن لهم أن يحيدوا بنا عن غير هذا الطريق حتى نبلغ منتهاه، ومهما طالت السجون ستهون ويهون كل شيء من أجل أن نرفع الحق ويزهق الباطل وتنتهي دولة الظلم.
ونحن نقدِّم هذه الأوقات كتضحية من أجل أمتنا؛ كي تكون في مقدِّمة الصفوف؛ لإعلاء كلمة ربنا وإسعاد الناس بها، وليعلم أحبتنا أنه ما من شيء كان يخفِّف عنا آلام السجن والبعد عن الأولاد والزوجة إلا الأمل في إعلاء كلمة الحق ومعرفة الناس بها.
رفع الراية
* وما موقفكم من الاتجاه نحو رفع حكم بالتعويض على ما حدث معكم؟
** أهم شيء هو أن نرفع الراية ونشغل بالنا بها، أما المواقف القانونية فهي متوفِّرة ولها ميعادها ولها رجالها، والصراع بينا وبين الظالمين صراع طويل إلى نهاية العمر وملفاته ممتدة.. أهم شيء الآن هو أن نكون في ميدان العمل والبذل، لرفع الراية مع إخواننا.
* من ابتلاء السجن الظالم إلى ابتلاء فَقْد الابن الحبيب والأكبر.. ماذا تقول؟
** أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وبارك الله في زوجتي المحتسبة الصبور، وإننا نطمع في رحمته وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى كي أحتضنه من جديد ذلك الحضن الذي افتقدته في الدنيا، ونسأل الله أن يلزمنا سكينته وأن يلهمنا الصبر والاحتساب.
* وما رسالتك التي تريد أن توجِّهها إلى الشباب خاصةً شباب الإخوان؟
** أقول: يا شباب.. العمر قصير، وياسر زميلكم مات وهو عنده 22 عامًا، فانتظروا الموت في أية لحظة، واختاروا لأنفسكم الموتة التي تُرضي الله عنكم، موتوا على طاعة وجهاد من أجل الحق؛ فالعمر أقصر مما تتخيلون وليس للإنسان إلا أن يعمل حتى يفرح يوم القيامة بما قدَّم ويقول ﴿هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (الحاقة: من الآية 19).
لا مبرِّر من الخوف؛ فياسر مات شهيدًا في غير ميدان، والموت آتٍ آت، وياسر أمامكم مثال، رحمه الله وهداكم إلى ما يحبه ويرضاه.
* وماذا تقول للشعب المصري؟
** كل ما أودُّ أن أقوله بكل مودة وحب إلى شعب مصر هو أننا نطمع أن ينتقل معنا من دائرة التعاطف إلى دائرة أن يحمل معنا هذه الراية حتى يلقى الله بها ونحن معه على طريق الجنة.
* كلمة لزوجتك وأبنائك.. تلك الأسرة التي حظيت بإعجاب كل من سمع عنها؟
** زوجتي بارك الله فيها صابرة محتسبة، ذكَّرتني عند أول المصيبة بزوجات الصحابة رضوان الله عليهن.. ذكرتني بالرميساء رضي الله عنها التي صبَّرت زوجها وعلَّمته كيفية الاحتساب والصبر.
وأقول لأبنائي جهاد ومريم ويوسف: إن هذا هو طريق الجنة والشهادة، فتمسَّكوا به وامشوا على هداه حتى تبلغوا نهايته، ويرضى الله عنكم وعنَّا جميعًا.