- الأمور في مصر تُدار بكاميرات فيديو وأشخاص لا يعرفهم أحد
- عدد من ضباط الأمن يحملون تقديرًا لمشروعنا الإسلامي الوسطي
- انهمرت دموعنا بسماع حكم الجنايات ببراءتنا جميعًا
- أسرتي نضج فهمها وابنتي أطلقت مدونةً أثناء اعتقالي
حوار- أحمد رمضان
يا لها من لحظاتٍ رائعة تلك التي يجلس فيها المرء مع أحد الذين أخذوا أحكامًا بالبراءة؛ روحانيات تتدفَّق ومشاعر أخوة تُتَبادل، وأحاسيس عميقة لا يستطيع مداد أقلام أن يُدركها.
ولم يكن حوارنا الذي أجريناه مع ياسر محمود عبده الأمين العام لنقابة التجاريين بالجيزة وأحد الأربعين الشرفاء الذين طالتهم مهزلة المحكمة العسكرية، ولكنها كانت لحظات تَفكُّرٍ في الصبر والثبات، وأخرى تأمُّلٍ في طبيعة الدرب والطريق، واستشراف مستقبل مصر تحت وطأة نظامٍ مستبد، كشف لنا خلالها ما جرى داخل الأسوار، وتركناه يتحدَّث حتى نقل لنا صورةً لما حدث، وكأننا نشاهد شريط فيديو لذكرياته حسب تعبيره.. فإلى الحوار "شاشة العرض":
* في البداية كيف استقبلت إحالتكم مع المعتقلين على خلفية أحداث الأزهر إلى القضاء العسكري؟
** لم تكن هناك أحداث في جامعة الأزهر تُبرِّر الإحالة إلى القضاء العسكري ولا حتى الإحالة إلى القضاء المدني، وأنا أفهم هذه الإحالة في إطار حيرةِ النظام في مواجهة الحقائق التي كشفت عنها الانتخابات البرلمانية عام 2005م وأهمها أنه لم يعد متاحًا للنظام الركون لعوائق طبيعية أمام التفاعل المثمر بين الحركة الإسلامية وبين قطاعات المجتمع المصري على اتساعه، بما في ذلك أبناء الريف، وحتى أهلنا في أعماق الصعيد.
وربما قد يفهم البعض هذا التفاعل كثمرةٍ لجهد وعطاء أبناء الحركة الإسلامية، وربما يفهمه آخرون في إطار فساد النظام وترهله، وقد يكون الأصوب فهمه في الإطارين معًا، وأيًّا كان الأمر فهذه هي الخلفية الحقيقة لإحالة قضيتنا إلى القضاء العسكري.
* هل كان قرار الإحالة للقضاء العسكري مفاجأة لك؟
** لم يكن مفاجأةً؛ إذْ سبقه قرار التحفظ على أموال رجال الأعمال وإغلاق شركاتهم، وهو قرار لا يقل في مغزاه عن قرار الإحالة إلى القضاء العسكري؛ فلا يوجد معنى في نظامٍٍ يدَّعي الرهان على تطبيق مبادئ الاقتصاد الحر في مواجهة المشاكل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، ثم يقوم بإرهاب رجال الأعمال إلا معنى واحد هو استعداد هذا النظام للتضحيةِ برهانه الوحيد سعيًا لاستمرار تسلطه وهيمنته.
وعليه فلم يكن مستبعدًا بعد تكشُّف النوايا من خلال قرار التحفظ على الأموال وإغلاق الشركات أن يتم إحالة القضية إلى القضاء العسكري.
الأجهزة الناعمة
* كيف ترى تجربتك في الاعتقال والمحاكمات العسكرية من زاوية اهتماماتك الاقتصادية؟
** كشفت لي تجربتي عن عالمٍ واسعٍ لم يسبق لي الاحتكاك به بهذه الصورة، وهو عالم الأجهزة، وأقصد به الأجهزة التي تُعين الحاكم على إحكامِ سيطرته على الشعب والناس.. أجهزة عديدة عرفنا أسماء بعضها ولم نعرف أكثرها، كنا نشعر دائمًا بأثرها ولا نعرف رجالها.. في قاعة المحكمة كان هناك بين الجمهور أفرادٌ غامضون يقومون بتسجيل ما يدور في الجلسات، وسألنا مَن هؤلاء؟ وكان الرد: إنها الأجهزة، بل كان هناك تصوير بالفيديو للجلسات، وسأل الدفاعُ: "لحساب مَن يتم التصوير في قاعة محكمةٍ مفروضٍ أنها مستقلة؟!" ولم ترد هيئة المحكمة، وقيل أيضًا إنه أحد الأجهزة.
بل وفي جلسة النطق بالحكم مُنع الأهالي والمحامون من الحضور، ورغم هذا امتلأت قاعةُ المحكمة العسكرية بوجوهٍ غريبةٍ علينا؛ يرتدي أصحابُها الزي المدني، وفهمنا أن هؤلاء من رجال الأجهزة.
فإذا أضفنا لهذه الأجهزة الناعمة تلك الأجهزة الخشنة من سجونٍ ومعتقلاتٍ وأمنٍ مركزي وترحيلات، وإذا حَسَبنا ما يُنفَق على اجتذابِ أصحاب العقول اللامعة للعمل بأجهزة القوة الناعمة، وإذا أضفنا إليه ما يُنفَق على هذا الكمِّ الضخم الذي يعبَّأ في أجهزة القوة الخشنة، وإذا علمنا أن هذا كله تحميلٌ على القدرات الاقتصادية المحدودة لهذا البلد الفقير.. لعلمنا مقدار الثمن الباهظ الذي يُدفع لتحقيق استقرار النظام؛ ليس عن طريقِ الرضا والقبول، ولكن عن طريق وأدِ الحيوية السياسية في هذا المجتمع المقهور.
والسؤال هنا لأصحاب العقول الحرة والضمائر الحية: ماذا لو أُنفِقَت هذه الأموال الضخمة على التنمية البشرية لأفراد الشعب حتى يتسنَّى لهم المشاركة بكفاءةٍ في النشاط الاقتصادي ويتحمَّلوا الرياح العاتية للمنافسة العالمية؟!
* صف لنا كيف مرَّت عليك تلك الفترة التي قضيتها وراء الأسوار؟
** كانت فترة خصبة لنا جميعًا؛ فقد انتُزعنا إجباريًّا من الاستغراقِ في مشاغل الحياة وهمومها، وأُتيحت لنا فرصةٌ للإدراك الأعمق لحقائق الإيمان والتأمل الأرحب في سننِ الحياة والحوار المثمر حول الإصلاح وقضاياه.
الوجه الآخر
* نريد أن تحدِّثنا عن رؤيتكم لأجهزة السلطة من خلال تجربتكم في الاعتقال والمحاكمات العسكرية؟
** في ظاهر الأمر كنا ضعفاء مأسورين في يدٍ قويةٍ قادرةٍ، وكان هذا المعنى يبدو لي جليًّا في أيام المحاكمة التي استمرت ما يزيد عن 70 جلسةً، وبخاصةٍ في جلسات الشتاء التي كانت تستمر إلى ساعةٍ متأخِّرة، وعندما كنا نتأهَّب للخروج في قاعة المحكمة بعد حلولِ الظلام نجد رجال الأجهزة قد انتشروا حولنا في حلقاتٍ من شرطة ومباحث ومخابرات، وتنطلق الأوامر وتتعالى الصيحات وتزمجر السيارات وتسطع الأنوار ويصطف الموكب واللواءات والحراس.
ولكنَّ الصورةَ تختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عندما تُتاح مساحةٌ من التواصل الإنساني مع أفراد هذه الأجهزة، فكنا نجدهم في معظمهم مثلنا؛ جزءًا من نسيج هذا المجتمع، وكنا نسعد عندما نجد أن الكثيرين منهم يحملون تقديرًا لمشروعنا الإسلامي الوسطي، وأن محاولات تشويه هذا المشروع قد فقدت جدواها حتى داخل مَن يعتبرهم الظالمون رجالَهم.
بالطبع.. ما زالت للقمة العيش حكمها وللاستبداد هيمنته، ولكنه استبداد فاقدٌ أهمَّ أركان استمراره، وهو المشروع الذي يُقنع الآخرين به ويجمع الناس حوله.
مواقف لا تُنسى
* ما أبرز المواقف التي لا تنساها أثناء فترة اعتقالك؟
** كانت أيام الاعتقال ثريةً بالمواقف التي أثَّرت في نفسي؛ بحيث إنه من الصعوبة بمكانٍ أن أختار منها، ومع ذلك سوف أذكر هنا موقفين لا أنساهما:
الموقف الأول: يوم أن تظلَّمنا أمام محكمة الجنايات من قرار النيابة بحبسنا احتياطيًّا، ورغم قناعتنا التامة بأن الاتهامات المُوجَّهة لنا من إرهابٍ وميليشياتٍ وغسل أموال لا أصل لها، إلا أننا لم نكن نتوقَّع أن يُثمر التظلُّم هذه النتيجة؛ ولذا كانت المفاجأةُ كاملةً لنا عندما حكمت محكمة الجنايات بالإفراج عنا فورًا وبدون ضمان، وما زلتُ أذكر دموعَ الفرحة وهي تنهمرُ من عيوننا عند سماع الحكم، وقد شعرنا جميعًا وقتها بمعنى وقيمة أن يكون القضاء مستقلاًّ.
الموقف الثاني: يوم أن أُحلنا إلى القضاء العسكري، ورغم عدم قناعتنا بمحاكمتنا عسكريًّا، إلا أنني من ناحيةٍ أخرى لم يُسبق لي أن عانيتُ من أي تعسُّفٍ عن طريق أجهزة القوات المسلَّحة المختلفة، ومرَّت شهور طويلة انتظرت وغيري أن أستُدعِيَ للتحقيق أمام النيابة العسكرية دون جدوى، وفجأةً وفي إحدى ليالي شهر أبريل، أخطرتنا إدارة السجن بأن أول جلسات المحكمة ستكون في الغد، وكنا نتساءل: كيف ذلك ولم يُسبق أن حقَّقت معنا النيابة العسكرية؟! وحقيقة كنت في قمة الحزن وأنا أسمع إلى ممثل النيابة العسكرية وهو يعلن في أول جلسات المحكمة أنه بعد التحقيقات قد ثبت في يقينه أننا قد قمنا بعمليات غسل أموال وإرهاب وتكوين ميليشيات، ووجدتُ نفسي أنظر للرجل في أسًى من خلف قفص الاتهام، وأنا أردِّد في نفسي.. "ثبت في يقين النيابة.. ثبت في يقين النيابة".
أجيال العسكرية
* وماذا عن أثر تجربة الاعتقال والمحاكمات العسكرية على أسرتك؟
** الاعتقال والسجن والقيود جزءٌ من عالم أسرتي من قبل أن أولد؛ فليس في الأمر جديد، ولكن عندما أقارن هذه المرحلة بمراحل سابقةٍ أحمد الله أولاً على أن وعْيَ المجتمع قد أصبح من الصعب تزييفه، بالطبع ما زال للقمع رهبته، وما زالت التضحية عزيزة، لكن الناس أصبحوا يدركون من لهم ومن عليهم، وأصبح الاستبداد يلجأ إلى القوة العارية من أي منطقٍ أو تبرير، وأحمد الله ثانيًا على أن أجيالاً جديدةً نشأت في ظل التعسُّف والقمع أراها في صورة ابنتي أسماء التي أثمر ضغط التجربة عليها فهمًا أرحب لمشروعنا الإسلامي، ووعيًا أعمق بفضائل الحريات، وتواصلاً أشمل مع ألوان الطيف الاجتماعي والفكري المتباينة من خلال مدوَّنتها التي أطلقتها في الفضاء الإلكتروني الواسع الذي يتجاوز كل الحدود والقيود.
* كيف استقبلتم الأحكام عند صدورها؟
** كنا جميعًا نُعدُّ أنفسنا وأسرنا لقضاء فترةٍ قد تطول خلف الأسوار، وكنا نعلم أن ابتلاءات الحياة متنوعة وليس السجن أقساها، وقد استقبل الجميعُ الأحكامَ بحمد الله على نعمته والرضا بقضائه، سواءٌ المُفرَج عنهم أو من تأجَّل الإفراج عنهم لأجلٍ ولحكمةٍ يعلمها الله.
* كيف كان حديث م. خيرت الشاطر لإخوانه عن تجربة السجن والاعتقال؟
** أذكر للمهندس خيرت الشاطر أنه كان إذا ذكَّرنا بالثبات أمام تجربة السجن والاعتقال أو إذا دعا الله للمأسورين والمضطهدين فإنه يبدأ بأسرانا في سجون العدو الصهيوني وأهلنا في فلسطين الحبيبة، وكان يعتبر ثباتهم وصمودهم مثلاً نقتدي به نحن كذلك وأسرنا خارج الأسوار.
اللحظات الأخيرة
* احكِ لنا عن آخر ليلةٍ قضيتها في حجرتك في السجن.. كيف مرَّت بك؟
** كانت ليلةً مليئةً بالشجن والمشاعر المستورة التي يصعب أن تتحوَّل إلى كلمات.. كانت حجرتنا قد ودَّعت اثنين من أركانها قبل حلولِ الظلام، هما د. خالد عودة وم. أسامة شربي، وكنتُ أتهيَّأ مع أخي د. عبد الرحمن سعودي للرحيل، وكانت عيوننا ترقب في حنوٍّ إخوتنا الباقين في الحجرة: د. محمد علي بشر، وم. مدحت الحداد، ود. عصام حشيش، ود. عصام عبد المحسن، وهم يعيدون ترتيب الأوضاع والخدمات وفق الواقع الجديد.
ووجدتُ شريطَ الذاكرة يدور دون أن أُحرِّكه مستعيدًا لمساتٍ تعلَّمتُها وخبراتٍ اكتسبتها من مصاحبتهم خلال هذه الشهور الطويلة في هذا المكان المحدود؛ بدايةً من د. بشر اللين السهل "حلاَّل المشاكل" إلى م. مدحت الحداد صاحب المؤهلات الدراسية المتنوعة الذي كنت دائمًا أنسى أنه من رجال الأعمال وأضمه إلى المهنيين أمثالي؛ لبساطته وتواضعه، إلى د. عصام حشيش المتفائل دائمًا وملك المواساة في السرَّاء والضرَّاء وللحكومة والأهالي معًا، وأخيرًا آخر العنقود، وأقصد أصغر أبناء الحجرة سنًّا د. عصام عبد المحسن أستاذ الرومانسية الذي لم ييأس حتى آخر لحظة أن يُعلِّم أمثالي بعضًا منها، ولكن هيهات.
ومضت ساعات الليل القصيرة واستيقظتُ على نداء م. مدحت لتناول سحور الخميس الذي قام بإعداده، ثم انتقلنا إلى صلاةِ القيام خلف إمام التهجد د. عصام عبد المحسن إلى أن حان أذان الفجر فصلَّى بنا إمام الفجر د. بشر، ثم جمعتنا خاطرة الفجر وأذكار الصباح إلى أن أشرقت شمس اليوم الجديد.
وتذكرتُ لحظة وداع د. خالد عودة لهؤلاء الأربعة النبلاء وهو يصرُّ، وهو العالم الفذ الذي عبر الستين، على تقبيل يد كلٍّ منهم.. كان يريد تكريم النبل فيهم؛ فقد ساروا في طريقٍ شائكٍ وهم يعلمون أنهم قد يدفعون الثمن، ومع ذلك استمروا، ورأوا غيرهم يدفع الثمن واستمروا، بل منهم مَن دفعوا الثمن من قبل، ومع ذلك استمروا، وها هم يدفعون الثمن مرةً أخرى وسيستمرون إن شاء الله.
* ما توقعك لمستقبل العلاقة بين الإخوان والنظام في الفترة المقبلة؟
** أتوقَّع استمرار حالة الانسداد السياسي التي يعاني منها الجميع الآن؛ فقد أضحت الحركة الإسلامية بحيويتها وانتشارها وتواصلها مع المجتمع- شاءت أم أبت- تحديًا ضخمًا أمام النظام، وبالتالي فإنَّ الخيارَ أمامه أصبح واضحًا، إما أن يرفع كفاءته ويُزيح عناصر الفساد ويقوي خطوط تواصله بالقاعدة الشعبية العريضة حتى يستحقَّ عن جدارةٍ تولي زمام الأمور، وإما أن يلجأ إلى القمع الأمني والتزييف الإعلامي وتوظيف أجهزة الدولة لتكريس بقائه في السلطة ولو على حساب الاستقرار الحقيقي لهذا البلد، وعلى حساب مستقبل الأجيال القادمة.
دور النخبة
* كيف كنتم تستقبلون مشاعر التضامن معكم التي عبَّر عنها المثقفون المصريون؟ وهل من كلمةٍ توجِّهها إليهم بعد الإفراج عنك؟!
** كنا نشعر جميعًا بالامتنان العميق لكلِّ مَن وقف معنا ضد هذه الإحالة الظالمة إلى القضاء العسكري من جميع ألوان الطيف السياسي؛ بدايةً من د. عبد المنعم سعيد، وحتى د. عبد الحليم قنديل؛ فقد كانت كلماتهم تنزل بردًا وسلامًا علينا، وحافظت على استمرار ثقتنا في النبلاء من النخبة المثقَّفة من أبناء هذا البلد.
وأودُّ ألا تفوت هذه الفرصة دون أن أصارحهم بأنني على يقين أن لديهم الكثير الذي يمكن أن يفيدوا به مجتمعنا، بل ويفيدوا به هذه الصحوة الإسلامية المتنامية، ولا أجد حرجًا في أن أقرَّ بأن لديهم الكثير الذي نحتاج أن نتعلَّمه منهم.
وحتى تتحقَّق هذه الاستفادة فمن حقنا ومن حق المجتمع عليهم أن ندعوَهم إلى الانفتاح أكثر على الإٍسلام كأحد الحقائق الثابتة للمجتمع الذي ينشدون إصلاحه، وإنني أود أن أسرَّ إلى هؤلاء الإخوة الكرام أن تجاهل هذه الحقيقة يكلفنا جميعًا ويُكلِّف مجتمعنا الكثير.