مدونات ضد المحاكمات : الحرية لمدحت الحداد | الحرية لعصام حشيش | الحرية للدكتور بشر | الحرية لضياء فرحات | الحرية لخيرت الشاطر | الحرية لحسن مالك


تشكل محاكمة المدنيين امام محاكم عسكرية انتهاكا خطيرا لحقوق الانسان. وهي بدون أدني شك اختراق لالتزامات الدولة المصرية وفقا للشرعة الدولية لحقوق الانسان، وبصورة خاصة المادة العاشرة من الاعلان العالمي والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ولمعايير روما ومعايير هافانا للمحاكمة المنصفة.

ما يهمني تناوله هنا هو النتائج المدمرة للمحاكمات العسكرية علي المدنيين، وتحديدا المعارضين السياسيين.
لم يفت هذا الجانب من الصورة نظر فقهاء القانون الذين صاغوا مسودات الاعلانات والعهود الدولية نظرا للاعتقاد أن انتهاك الحقوق الفردية للانسان يقود الي نتائج وخيمة بالنسبة للمجتمع ككل.
غير أن من المطلوب والمفيد أحيانا لفت نظر النخب الفكرية والسياسية لهذه النتائج المدمرة وتعيين طبيعتها ودور الاحالة للمحاكم العسكرية في العملية السياسية في الزمان والمكان الذي تتم فيه. ويهمني أن أميز بين النتائج ذات الطبيعة العامة وتلك التي تستهدفها السلطات في لحظة بعينها من التطور السياسي والثقافي للمجتمع المصري.

أولا: المغزي العام

تشكل المحاكمات العسكرية للمدنيين إحدي التعبيرات عن العلاقة القهرية علي المستويين المدني والسياسي والتي ربطت المجتمع المدني بالدولة. وما يسترعي النظر في هذه العلاقة القهرية أنها استندت ليس علي أداة قانونية واحدة بل علي عدد كبير من الأدوات. فحتي علي المستوي الدستوري يمكننا أن نحصي خمسة أنظمة قانونية استثنائية، تخرج جميعا عن الأصل في النص الدستوري في المجتمعات الديموقراطية، وهي أنظمة قانونية تتيح للرئيس اصدار تشريعات وتأسيس محاكم خارج النظام الطبيعي. خمسة أنظمة قانونية استثنائية أهمها بالطبع هو قانون الطوارئ.
الطريف هنا هو التطرف و التزيد في تشريع الاستبداد واضفاء لمسات قانونية علي عنف الدولة. فبينما لا تحتاج الدولة الاستبدادية سوي لتشريع واحد، فالدولة المصرية أخذت بخمسة أنظمة قانونية استثنائية في وقت واحد وزجت بها جميعا في ذات النص الدستوري بما في ذلك بالطبع نص دستور 1971 الذي كان يبشر بنقل البلاد للديموقراطية، وفقا لتصريحات الرئيس السادات في ذلك الوقت.
ومن باب التزيد والتطرف في الضمانات التشريعية للاستبداد، أجبرت مصر علي العيش في ظل قانون الطوارئ معظم تاريخها الحديث منذ الحرب العالمية الأولي. اذ لم يرفع هذا القانون الا علي سبيل الاستثناء ولسنوات أو شهور قليلة. لا شك بالطبع أن الحكم العسكري الذي بدأ عام 1952 كان العامل الحاسم في هذه النتيجة المفزعة: أي جعل قانون الطوارئ الأصل في الحياة القانونية للبلاد. أما الرئيس الحالي حسني مبارك فهو الرجل الذي حكم بقانون الطوارئ منذ ولايته عام 1981 حتي الان، أي لأكثر من ستة وعشرين عاما دون أي انقطاع ولو رمزيا!
من الطرائف الأخري في البنية القانونية لهذا البلد أن معظم القوانين الاستثنائية ليست مجرد تشريعات منفردة تعالج حالات خاصة بالمقارنة بالقانون العام، انما تتشكل في الحقيقة في نظم قانونية استثنائية بذاتها. بتعبير آخر يمكن باستخدام أي من القوانين والتشريعات سيئة السمعة أن يحكم الرئيس ورجاله من خلال كل قانون منفرد وحده ودون حاجة لأي قانون أو تشريع آخر بل وبدون حاجة بالطبع للقانون العام.
يصدق ذلك تماما علي قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لسنة 1966. ان المنطق والاستعداد الذهني البسيط يقود لتوقع أن يتخصص هذا القانون في شؤون محاكمة الضباط وأفراد الخدمات النظامية العسكرية وشبه العسكرية. وان افترضنا أن مثل هذا القانون سيطبق علي المدنيين يقول المنطق أن ذلك قد يتم وقت الحرب أو بسبب نوع الجرائم المعنية وخاصة ما يطلق عليه بالارهاب! لكن هذه التوقعات غير سليمة.
فنحن لسنا ازاء تشريع بعينه وانما امام منظومة قانونية استثنائية كاملة مثلها في ذلك مثل قانون الطوارئ! اذ ينص قانون الأحكام العسكرية علي أن لرئيس الجمهورية متي أعلنت حالة الطوارئ أن يحيل للقضاء العسكري أياً من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر . والجملة الأخيرة تعني في الحقيقة أن قانون الأحكام العسكرية يختص بتطبيق أي قانون وكل قانون آخر! بما في ذلك بالطبع القوانين المنضوية تحت اسم القانون العام.
لكن ليست هذه هي النهاية. فالأخطر بكثير هو أنه لرئيس الجمهورية أن يحيل للقضاء العسكري الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم وفقا للبابين الأول والثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات حتي في الأحوال العادية. وبمقتضي هذا القانون الاستثنائي يستطيع رئيس الجمهورية أن يختار بين تحويل هؤلاء المتهمين بارتكاب جرائم أمن دولة اما لمحاكم أمن الدولة طوارئ أو للمحاكم العسكرية.
وصل الحال بهذا التشريع أن جعل الأحداث أحد المخاطبين بأحكامه. أي يستطيع رئيس الجمهورية أن يحيل الأطفال للمحاكمات العسكرية وهو ما لن نستغرب وقوعه مع تعاظم صفوف اطفال الشوارع.
إننا لا نتحدث هنا عن تشريع بين تشريعات، بل عن نظام قانوني استثنائي كامل. فالرئيس يمكن أن يحكم بواسطة هذا التشريع وحده ودون حاجة لأي تشريع آخر. ولأن ذلك صحيح أيضا بالنسبة لعشرات من القوانين الاستثنائية الأخري، فالنتيجة المثيرة هي أن مصر عاشت معظم تاريخها الحديث في ظل أنظمة قانونية استثنائية من بينها نظام الطوارئ. وعاشت ولا زالت تعيش في فائض كبير من التشريعات والانظمة القانونية الاستثنائية.
في الواقع، لا أملك تفسيرا محددا لاصرار النظام السياسي حتي الان علي امتلاك والتوسع في هذا الفائض من التشريعات الاستثنائية. فالمفترض أن النظم القانونية تعتمد علي مبدأ الكفاية والا سمحت بالتكرار والازدواجية والاختلاط والاضطراب المصاحب للنزاع بين القوانين.
تأملت للحظة أن يكون السبب هو فائض النشاطية السياسية بين المصريين، فأخذتني نوبة اجبارية من الضحك الطويل. المصريون معروفون عموما بالعزوف عن المشاركة السياسية والبعد عن المخاطر والرغبة في التسليم بأوامر السلطات علي أي مستوي وبالطابع المحافظ عموما. فلماذا اذا تطرف النظام العسكري والبوليسي في انتاج فائض كبير من التشريعات الاستثنائية؟
ربما يكون التفسير هو العكس تماما: أي أن فائض السلبية والعجز وسيادة ثقافة الخوف هي السبب وراء لجوء النظام العسكري والبوليسي للافراط في منح نفسه عددا غير محدد من الأدوات التشريعية القهرية. بكل بساطة يميل النظام البوليسي للتعامل مع التشريعات بقدر مذهل من عدم المسؤولية. وطالما أن احدا لن يسائله فهو ليس مضطرا لاظهار أي قدر من الحرص والحكمة في انتاج تشريعات استثنائية حتي لو أنها اختلطت مع بعضها البعض أو تنازعت وتناقضت وتكاثرت الي حد يسبب الاضطراب للقضاة (عادة عديمي الضمائر) الذين يستخدمونها في اصدار الأحكام علي متهمين محرومين من أبسط حقوق التقاضي، كما تنص المادة العاشرة من الاعلان العالمي والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
النتيجة ليست تعمق وامتداد ثقافة الخوف في الزمان والمكان فحسب، بل والأهم أن يتعرض المجتمع بالضرورة لعملية تفكك مؤكدة وطويلة المدي. هذا الشرط القهري كان وراء ما أكده مالك بن نبي من نمو الاستعداد للاستعمار في مجتمعنا المصري تحديدا وفي بقية المجتمعات العربية الاسلامية عموما طوال حقب تاريخية طويلة.

ثانيا: المغزي الخاص

يحصر كثير مغزي المحاكمات العسكرية للمدنيين في محاولة ضرب حركة الاخوان المسلمين.
يؤكد هذا المعني مجموعة من الأدلة والاعتبارات. فبوجه عام تمثل حركة الاخوان التحدي الوحيد الجاد لسلطة النخب العسكرية والبوليسية البيروقراطية. كما أن الاخوان كانوا وحدهم المستهدفين بالمحاكمات العسكرية خارج التنظيمات المتشددة التي زعم قيامها بأعمال ارهابية. ولا شك أن الاخوان كانوا هم أكثر ضحايا الأحكام العسكرية الجائرة التي صدرت في عدد من القضايا التي استهدفتهم تحديدا منذ عام 1992.
لا شك أن لهذا التحليل بعض الوجاهة. فاستهداف الاخوان بدأ منذ بداية التسعينيات. ومنذ ذلك الوقت لم يحل أشخاص من المعارضة المدنية والسياسية غير الاخوانية لمحاكم عسكرية. وفضل النظام تقديم ضحاياه الاخرين لمحاكم أمن الدولة حيث تتوفر ضمانات أفضل بكثير للحق في المحاكمة العادلة.
غير أن الموجة الحالية من المحاكمات العسكرية لكوادر وقيادات الاخوان المسلمين تختلف في نواح مهمة عن الموجات الخمس الكبري السابقة. ولا شك أن أهم هذه الاختلافات ما يتعلق بالسياق السياسي. فالموجة الراهنة من المحاكمات العسكرية للاخوان تتم كنوع من الاستكمال للهجوم العاصف المضاد الذي تقوده الدولة البوليسية ضد حركات الاصلاح السياسي والدستوري التي استلمت زمام المبادرة خلال الفترة من صيف 2004 وحتي صيف 2006.
تكمن أهمية هذا العامل في أن احالة الاخوان للمحاكم العسكرية القهرية تتم بعد أن حققوا قبولا واسعا في صفوف المجتمع المدني والسياسي وتمكنوا من مد الجسور معه وإن ليس بالضرورة الاندماج فيه.
لا يقل عن هذا العامل أهمية أن الاحالات الأخيرة للمحاكم العسكرية تتم بعد أن تمكن الاخوان من ايصال 77 نائبا لمجلس الشعب. وبينما يبدو أن الاخوان تعاونوا مع الحكومة في وقف الانتصارات الانتخابية في عدد أكبر بكثير من الدوائر، فان الدولة تبدو مصممة علي توجيه ضربة أعمق وأوسع بكثير للحركة.
من المعتقد أن الاحالات الأخيرة لا تستهدف مجرد خلخلة الحركة أو وضعها في موضع الدفاع واجبارها علي الانكماش كما جرت العادة مع الاحالات السابقة. الهدف يبدو هذه المرة أوسع وأعمق بكثير. ففي تقديري أن الهدف المتعلق بالاخوان هو توجيه ضربة قاصمة لهم تحدث خلخلة استراتيجية أعمق. ويدل علي ذلك توجيه الضربة لعدد مهم من الصف القيادي الأول بل للشخصية القيادية الحقيقية الأولي للحركة وهو المهندس خيرت الشاطر. كما يدل علي ذلك محاولة تصفية القاعدة المالية والاقتصادية للحركة بتوجيه الاتهام للشركات المشكوك في تبعيتها للحركة بـ غسيل الأموال .
يهمني هنا لفت النظر الي القيمة الخاصة للمحاكم العسكرية في السياق السياسي الراهن سواء فيما يتعلق بالاخوان أو المجتمع السياسي الأوسع.
فكما أشرنا كان بوسع الدولة أن تحيل القيادات الاخوانية لمحاكم أمن الدولة. ويعيب هذا الاحتمال أن القضاة المدنيين عادة ما يحكمون بمقتضي القانون فعلا، بينما القضايا المرفوعة أمام المحاكم العسكرية تفتقر لمعني القضية القانونية، اذ تخلو من الشق المادي، بل تخلو من معني الجرم أو احتماله أصلا.
كان بوسع الدولة أن تقوم باعتقال هذه القيادات بسلطة قانون الطوارئ وأن تحتفظ بهم لفترات طويلة كما يحدث مع نظام الاعتقال المتكرر المعروف. من الواضح أن الدولة لم ترد أن تظهر وكأنها تستخدم الاعتقالات الادارية بحق الاخوان. ولكن السبب الأهم مزدوج:
فمن ناحية أرادت أن تضمن صدور أحكام بالحبس علي عدد من القيادات العليا للحركة. ومن ناحية ثانية وهذا هو ما ألفت النظر له أرادت النخبة السائدة في مصر أن تقول أنها هنا وأنها تمارس السيادة والسلطة بصفتها نخبة عسكرية . ورغم أنها لم تشر لذلك صراحة بالطبع، لكنه يشكل في رأيي أهم الرسائل المبعوثة من النظام للمجتمع: أنهم يلجأون للمحاكم العسكرية لأنهم في النهاية عسكريون ويحكمون البلاد فعليا باسم القوات المسلحة. ويعني ذلك أنه مهما توسعت الحالة المدنية في البلاد فالواقع يقول أنها لا زالت محكومة من جانب القوات المسلحة وعبر الحق في رفع السلاح في أي وقت ضد اية قوة معارضة.
لذلك نستنتج أيضا أن من بين الأهداف الكبري للموجة الراهنة من المحاكمات العسكرية افزاع بقية اطراف وتيارات الحركة الاصلاحية وبصورة خاصة حركة كفاية.
وبينما لم تحل الدولة البوليسية أياً من القيادات المعروفة لحركة كفاية أو لحركات الاصلاح السياسي والدستوري الأخري للمحاكمات العسكرية أو للاعتقال وفقا لقانون الطوارئ، فان الرسالة الموجهة لهم عبر الموجة الراهنة من المحاكمات العسكرية للاخوان لا يمكن اهمالها.

خاتمة

من المؤكد أن الرسالة ليست موجهة للحركة الاصلاحية وعلي رأسها حركة كفاية فحسب. بل موجهة أيضا للمجتمع المدني والسياسي المصري كله.
ان مصر تستيقظ ببطء وان بثبات من نتائج موت طويل للغاية للسياسة ومن نتائج ثقافة خوف وفزع حقيقية. النخبة المثقفة كانت دائما مستعدة وراغبة ومنخرطة فعلا في الحركة السياسية. أما الجديد فهو بكل تأكيد استيقاظ قوي جماهيرية واسعة لا تربطها علاقات أو وشائج قوية مع النخب الاصلاحية.
واليوم تثور في مصر فئات لم تخرج من بيتها أبدا للقيام باحتجاج أو لتقديم مطالب سياسية أو اقتصادية. وخلال النصف الأول من شهر كانون الأول (ديسمبر) تتزامن عشر حركات جماهيرية ومطلبية تعيش لايام في الشوارع وعبر عمليات اعتصام واضراب غير مسبوقة.
ولا تكاد تكون ثمة علاقة بين حركات الاحتجاج والنضال المطلبي الجماهيرية هذه من ناحية وحركة الاخوان المسلمين أو اية حركة سياسية أخري.
غير أن المحاكمات العسكرية للاخوان هي أيضا رسالة موجهة لأبسط المواطنين... للبلد كله الذي يستيقظ من خوف طويل ويتحدي ببساطة أكبر آلة تخويف تشريعية في المنطقة.

باحث مصري في مركز
الاهرام للدراسات الاستراتيجي

0 التعليقات :

أضف تعليقك