في بيان سيادته أمام مجلس الشعب ، أورد الدكتور نظيف الكثير من الأرقام و الإحصاءات ، و التي تعَبِّرُ بلا شك عمَّا وراءها من جهدٍ و عمل ، و قد أوضح سيادته بالأرقام ، مدي الزيادات في الموارد ، و في الانتاج ، و في الوظائف ، و ذكر أن الشعب المصري ينعمُ بأشياءَ كثيرة ، منها انتشار الحاسبات خاصةً في المدارس ، و اقتناء ثلاثين مليون هاتف محمول ، و طلب سيادته مشاركةَ الشعب للحكومة في تحمل المسئولية ، ليعملَ الجميعُ متعاونين ، و حَمَلَ علي من يُكثرون الانتقاد ، و يَغفُلون عن الجهود المبذولة ، و عن مؤشرات النجاح الواضحة .
و لكنَّ لغةَ الأرقام وحدها لا تكفي ، فقد تكون دالةً للمقصود بها .. ، أو ضالةً عنه . و ربما يتضح هذا من بعض الإشارات التالية ، و التي تدور علي ألسنة الناس ، أعرضها و أنا لست من المُقلِّلين لدور الحكومة و جهودها ، و لا من الموافقين علي الاعتراض الدائم و المبالغ فيه أحيانا كثيرة من المعارضين ، و إنما أُشير للغةٍ أخري ، أكثر تعبيراً عن راحة الناس و " نعيمهم " من لغة الأرقام المجردة :
فلو فرضنا أن هناك شركةً متعثرةً ، تولَّي إدارتَها رجلٌ ، في مثل نزاهة و مهارة الدكتور نظيف ، و بذل الجهد و الوقت في إصلاح مرافقها و ترتيب شئونها ، و لكنَّه أغفل تكافؤ الفرص أمام العاملين ، فارتقي فيها غيرُ الكفء و غيرُ الأمين ، أو أغفل محاسبة الفاسد و المزوِّر و المرتشي ، أو ترك في بطانته من تحوم حوله الشكوك و الريب ، أو أغفل الاستفادة من آراء العاملين ، فكانت الأمور كلها تسير وفق توجيهات سيادته دون مشاورةٍ لأحد ، .. ثم جاءت الأرقام في نهاية العام تبشر بزيادةٍ في المبيعات ، و زيادةٍ في المرتبات ، و زيادةٍ في الوظائف .. ، فهي غالباً زيادةٌ خادعة ، غير حقيقية ، ربما صاحبها رداءةٌ في الانتاج ، أو زيادة أكبر في الأسعار ، أو تآكل في الأصول .
إن الأرقام لكي تعبر عن دلالتها ، و لكي تنتفي ضلالتها ، يجب أن تصاحبها أسس الإصلاح المعروفة ، من العدل و تكافؤ الفرص ، و الأمانة و القضاء علي عوامل الفساد ، و إلا سيكون هناك بناءٌ و لا شك ، يقوم به الدكتور نظيف و قلة من المخلصين معه ، و لكنه لا يَقوي علي الهدم الذي يسببه التزوير و الرشاوي و كبت الحريات و إهدار قيمة المواطنين ، فمتي يبلغ البنيان يوما تمامه .. إذا كنت تبنيه و غيرك يهدم ؟!! .
إننا لا ننكر الجهد الذي يبذله الدكتور ، و لكن نريد لهذا الجهد أن يؤتي ثماره الحقيقية ، بأن يوجَّه الجزء الأكبر منه للإصلاح الأساسي ، نريد أن تنصرف بعض جهود سيادته للقضاء علي التزوير ، و الذي حدث أمام الأشهاد في انتخابات الشوري ، و من قبلها في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية ، ذلك التزوير العام الذي يؤدي إلي تسليم مناصبَ كبيرةٍ و مراكز خطيرةٍ إلي من ليسوا لها بأهل ، فيؤدي ذلك إلي إهدار كثيرٍ من الجهود التي تقومون بها ، و الذهاب ببركة كثيرٍ من الأرقام التي تسعون لتحقيقها ، و لنلحظ البلاغة و الإعجاز في الحديث الشريف الذي يبين خطورة شهادة الزور و يلحقها بأكبر الكبرائر .
سيادة الدكتور هناك أرقام قليلة و لكنَّ لها دلالاتٍ كبيرة ، نرجو أن تضيفها لقائمة البنود التي تختبر بها أداء الحكومة و تقيم به انجازاتها :
كم عدد أحكام القضاء التي لا تُنفَّذُ ، إن حكماً قضائياً واحداً لا يُنفَّذُ بخصوص مواطنٍ واحد ، يترك آثارَه الخطيرة علي آلاف المواطنين ، فهو يُشجع الفاسدين علي فسادهم ، أو يُقنط الصالحين من صلاحهم .
إن التستر علي منحرفٍ واحدٍ ، لكونه واصلاً أو متصلاً أو متواصلاً مع بعض الكبراء ، يفتح شهية غيره للنفاق و الفساد ، و يَضيع علي البلد بذلك كثيرٌ من الأرقام الإنمائية التي تذكرها سيادتكم في تقاريركم .
إن اعتقال بريءٍ واحدٍ أو اتهامه ظلماً ، يضفي ظلالاً من الإحباط و الكآبة و اليأس علي الكثيرين ، و يحملهم علي الخوف من إبداء الرأي أو قولة الحق ، و يصرف المواطنين عن المشاركة الإيجابية في أي شأن .
إن تحويل مدنيٍّ واحدٍ لمحكمةٍ عسكرية ، يترك ظلالاً من الخوف و الإحباط عند كل من تُسوِّلُ له نفسه أن يبديَ رأياً ، أو يقدم نصحاً ، خاصة إذا كان من هؤلاء ، من هو زميل دراسة و تدريس لسيادتكم و مشهود له من بين زملائه بطهارة اليد و حسن الخلق ، بإجماع زملائه و زملائك سابقا من أعضاء هيئة التدريس ، و هو الدكتور عصام حشيش .
إن اتهام عددٍ قليل ظلماً بغسيل الأموال ، يضفي ظلالاً من عدم الاستقرار علي مناخ الاستثمار ، و يُرهب رأس المال " الجبان بطبعه " و يصرفه لبلاد أخري .
و قد أورد سيادته في أرقامه ارتفاع الإيرادات إلي ما يزيد عن سبعين مليارا ، و لكننا للأسف نجد أن معظم هذه الإيرادات ليست انتاجاً حقيقياً ، و إنما هي حصيلة بيع أراضي الدولة من المزادات التي أشعلت الأسعار ، و حصيلة الضرائب ، و حصيلة الخصخصة و بيع الكثير من الأصول التي لا نعلم يقينا حقيقة المشتري لها ، و الكثيرون يعلمون من قراءة التاريخ القديم و الحديث ، أن تملُّكَ الأجانب لهذه الأصول ، هو مسمارٌ يُدقُّ للتدخل و السيطرة ، خاصة و ظَنُّ الكثيرين أن من هؤلاء المستثمرين يهود و لو بأسماء مستعارة
و طلب سيادته أن يكون الشعب مسانداً للحكومة ، و هذا يكتمل عندما لا يكون اتجاه الحكومة معانداً لرغبة الشعب في كثير من الأمور ، و أضرب مثالاً واحدا لم يتعرض سيادته لأية أرقام حوله ، و هو تصدير الغاز بأسعار بخسة للعدو الإسرائيلي ، ليستخدمه في بناء مغتصباته ، و ضرب إخوتنا في فلسطين في كل يوم ، و تخطي الخطوط الحمراء التي ذكرها سيادة الرئيس ، تُري كم من الشعب المصري الذي تطلب مساندته للحكومة يوافق علي هذه التصرفات .
و ردد سيادته مقولة الزيادة السكانية التي تفوق المليون و نصف المليون سنويا ، و أن هؤلاء يستهلكون كذا من الأمتار المكعبة من المياه ، و كلنا يعلم أن مهمتنا ليست تسخير الرياح ، أو إنزال الأمطار أو إنبات الزرع ، إن الحكومة ليست برازقة و إنما هي مناولة للرزق ، و جلُّ واجبها إقامة العدل ، و احترام القضاء ، و الاهتمام بالأمن العام و لو بعشر ما يهتم به الأمن السياسي ، و يإعادة النظافة و الطهارة لأجهزة الإعلام و التوجيه ، و إطلاق الحريات ، و الحرص علي تولية الأصلح أمانةً و كفاءةً ، و إشعار الناس بالأمان الحقيقي ، الذي يدفع لإبداء الرأي و إبداع الفكر ، بعد ذلك تكون الأرقام قد دبت فيها الروح و تصبح معبرةً بحق عن المقصود بها .
سيادة رئيس الوزراء.. إقامة العدل مسئوليتكم أمام الله تعالي .. لغة العدالة أبلغ في الدلالة من لغة الأرقام ، أعطني كسرة الخبز مع العدل ، تجدني أسعد مما لو أعطيتني شواءً و هاتفا محمولاً مع الظلم .